السبت، 15 فبراير 2014

نقاش حول الدراسات النقدية للعقل العربي الإسلامي.

   لقد برزت في العقود الأخيرة مجموعة من الدراسات والأبحاث والكتب التي تهتم بدراسة التراث الإسلامي- العربي تحت عنوان نقد العقل العربي أو العقل الإسلامي. في ظل هذا السياق ما معنى العقل ؟ وهل هناك عقل إسلامي عربي؟ هل معنى العقل هو الخلفية أو البنية الأخلاقية والفكرية والنفسية التي تتحكم في تفكير وممارسة العربي والمسلم سواء على مستوى الجماعة أو الفرد؟
   من خلال إطلاعنا على مجموعة من النصوص التي تهتم بهذا المبحث وجدنا أن العقل يتحدد في هذه الدراسات باعتباره بنية. هذا المفهوم (البنية) هو الذي حدد الإطار المنهجي والنظري للدراسات المتعلقة بالتراث الإسلامي –العربي، باعتبار البنية هنا هي النموذج العام أو النظام الذي يتحكم في التفكير السائد.
  غير أن ذلك يطرح مجموعة من الإشكالات التي هي مرتبطة أولا بالرؤية والفهم الذي أعطي للعقل، ومن جهة أخرى مرتبطة  بالمنهج البنيوي. فالارتباط بالمنهج البنيوي في هذه الدراسات هو ارتباط مباشر وإن لم يدعيه صاحب الكتاب أو الدراسة، لأن الارتكاز على مفهوم العقل يعني الارتكاز على مفهوم  النظام المتحكم في آليات التفكير والممارسة، بمعنى أخر إنها رؤية تنطلق من أساس منهجي يجمد مرحلة تاريخية من خلال تعميم استنتاجات على كل العناصر المشكلة للبنية الاجتماعية بقاعدتها البشرية، هل هذه معالجة قويمة لمعالجة الإشكالات المرتبطة بالتراث؟
  من وجهة نظري أرى أن هذه المنهجية ليست خاطئة، فهي لها أهميتها في معالجة ظواهر وإشكالات التراث، غير أنه  لا يجب أن تقتصر المعالجة العلمية في حدود ذلك المنهج –البنية/الثبات- فهي لحظة منهجية ضرورية ولكنها مرحلية. ففي حالة عدم اعتبارها مرحلية ومؤقتة سيغيب علينا دور التاريخ في حركيته وتغيراته، ولما له من مؤثرات ترتبط بالتراكمات التاريخية للمجتمعات المدروسة. فالارتكاز على منهج ثابت لدراسة موضوع يمتاز بالتغير والحركية سيظل بحثا بدون جدوى وبدون مردودية علمية، لأن المحددات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وحتى الثقافية هي محددات دينامية أي يطبعها التغير في العلاقات مع بعضها البعض وأيضا في تحديد الشكل العام للمجتمع أو النمط الحضاري. كما أن المجتمعات المرتبطة بتلك التراث ليست مجتمعات متجانسة متماثلة، إذ نجد اختلافات في ما هو اقتصادي باعتباره محدد رئيسي للصراعات والديناميات الاجتماعية (مجتمع التراث) والسياسي باعتباره محرك أساسي و الثقافي موجها. هذا إن دل فإنه يدل على أن القاعدة البشرية هي قاعدة غير متجانسة بل يحكمها التناقض في المصالح والرؤى، وهذا ما تجلى بشكل واضح في تعدد المذاهب والتوجهات سواء الدينية أو الفلسفية.
  إذا الأمور دائما انتقالية، ولكن الضرورة المنهجية تفرض على الباحث  القيام بعملية تجميد اللحظة، وهنا تتجلى الحاجة للمنهج البنيوي لدراسة المستويات البنيوية للمجتمع، غير أنه كما قلنا لا يجب أن نقف عند حدود البنية بل لا بد من توسيع الرؤية المنهجية لكي تستطيع استيعاب العوامل المحددة والمتحكمة في التحولات، والتي تساهم بشكل دياليكتيكي في تحديد التوجهات الأيديولوجية/ الفكرية، فمن الضروري استحضار الرؤية الجدلية للظواهر الاجتماعية.
  فالمعالجة التي قدمها مجموعة من المفكرين الذين اهتموا بدراسة التراث في إطار عنوان "نقد العقل" امتازت بحصر الظواهر المعقدة في إطارات ضيقة، إذ أصبح الفكر خلالها هو الحاكم المطلق على سيرورة المجتمعات المدروسة، إذ الواقع سوى انعكاسا للفكر، في حين أن الأمور في الحياة الاجتماعية لها ارتباطات جدلية،  فالفكر انعكاس لواقع الموضوعي، ولكنه يعود ليؤثر فيه من جديد، إذ العلاقة علاقة جدلية، علاقة تأثير وتأثر وفعل متبادل. والفكر يمتاز بالعلمية كلما تمكن  من عكس ذلك الواقع في شموليته.
ان مثل هاته التحليلات التي تغيب العلاقات التأثيرية المتبادلة ما بين ما هو فكري و ما هو مادي تقف في حدود سطح الظواهر، وهذا من ميزة المنهج البنيوي. فالجابري كمثال قام بتحليل بنية العقل العربي انطلاقا من اعتبار هذا العقل يتشكل من نظام عرفان ، ونظام بيان، ونظام برهان. في حين أن القول بان العقل العربي، يتكون من نظام عرفان ونظام بيان ونظام برهان، مثل الحديث عن بناية والاقتصار فقط على مظهرها الخارجي لونها وشكلها وعلوها...  فهذا تحليل مظهر وسطح الشيء وليس الغوص في العمق وجوهر الشيء، فكل شيء في الحياة يتميز بالشكل والمضمون، بالسطح والعمق، بالخارجي والداخلي...
   فالتحليل العلمي للتراث وللمجتمعات العربية السابقة، يتطلب تأسيس منهجي نظري يأخذ التناقض الحاصل في الوحدة البنيوية للمجتمع. أي القيام بعملية كشف الأسس الداخلية والجوهرية المختفية وراء أقنعة السطح، بمعنى آخر يجب الانطلاق من الواقع الاجتماعي بأوجهه المتعددة الاقتصادية والسياسية والثقافية، وما يصاحبه من صراعات حول المصالح المادية وتوجهاتها الفكرية.
  عموما فالعقل كمفهوم من الممكن أن يكون أداة للتحليل، ولكن لا يمكن معرفة تركيبة المجتمعات وتراثها من خلال العقل نفسه. فهذا العقل من أجل فهمه يتطلب هو نفسه تحديد الأسس التي تنبني عليها بناية العقل. أما إذا اقتصرنا على العقل في حد ذاته، هو المبدأ والخلاصة،  فسنخلص لنتائج خاطئة وإسقاطات مشوهة.
  إذا يجب أن ندرس الظاهرة التراثية انطلاقا من محددات تاريخية واقتصادية وثقافية والاستعانة بالمنهج البنيوي بشكل مؤقت. فلا يجب أن يكون الهدف من الدراسة البحث عن الثوابت في الظواهر لأنها محكومة بالتغير، لذلك فأي محاولة لفرض منطق ثابت على واقع متحرك متغير ستصاب بالفشل أو سينتج لنا أوهاما وأخطاء.

الأحد، 2 فبراير 2014

أفكار حول الماركسية والطبقة العاملة .

إن الثوريون الماركسيون (التعميم ليس مطلق) ينظرون إلى الطبقة العاملة نظرة ملائكية قريبة إلى المثالية الحالمة، ينظرون إليها كجوهر تابث لا يصيبه تغير ولا تحول ولا تطور. يقولون أن طبيعتها ثورية دوما وخيارها ثوري بالفطرة.

  ولكن كيف نفسر إنجرافها مع "الاصلاحيين" و"الانتهازيين" و "المغامرين " و ...إذا كانت الطبقة العاملة بطبيعتها هي طبقة ثورية صاحبة الايديولوجيا الاشتراكية، فأتوماتيكيا يجب أن تكون في تناقض مع هؤلاء الذين يقودونها بدون أن تحتاج إلى مثقفين أو طليعة توجهها، في حين أن الواقع يشهد عكس ذلك. بالإضافة إلى هذا، نحتاج إلى تفسير حاجتها المستمرة إلى الطليعة المثقفة التي تنقل لها الوعي بالتغيير. إن هاته التحليلات الممجدة والمقدسة للطبقة العالمة تتناسى المعطيات الواقعية وتسقط في فخ النظرة الميتافيزيقية للطبقة العاملة مما يعطينا أخطاء في الشعارات والقراءات والبرامج ... فهل هذا خطأ في صلب الماركسية ؟

  كلنا نعلم أن الماركسية الاوربية - وهذا التحديد الجغرافي مقصود- كما عند ماركس ارتكزت وأسست عنوان تغييرها على قاعدة بشرية طبقية هي الطبقة العاملة، اعتبارا للشروط الاقتصادية التي كانت تعرفها الرأسمالية في مرحلتها الانتقالية تلك، ولكن هل اعتبر ماركس الطبقة العاملة هي طبقة متعالية مستقلة بذاتها ولذاتها واعية بشكل فطري لمهامها أو كما يقول البعض لراسلتها التاريخية (وكأن التاريخ شخص واعي كلف البروليتاريا بتبليغ الرسالة الدينية ليختم بها نهاية التاريخ وهي الشيوعية - تسرب منطق لاهوتي في فلسفة مادية-)، الاجابة وهي أننا لا نجد ذلك في كتابات كارل ماركس، بل ما نجده وهو أن هذه الطبقة تحمل مهام التغيير نظرا للشروط البنيوية التي امتازت بها أوربا في تلك المرحلة، إذا تغيرت هذه الشروط تتغير الخلاصات، وهذا ما حدث في الصين مثلا من خلال الارتكاز على الفلاحين عوض عمال المدن ... إذا نحن أمام منهج يراعي التغيرات الحاصلة في تاريخ المجتمعات والحاصلة من حدود جغرافية/سياسية إلى أخرى (الجغرافيا السياسية).

   فالحاصل في كتبات كارل ماركس هو أن الحامل للفكر الثوري -في البدايات- والمنتج له ليست الطبقة العاملة بل المثقف سواء أكان برجوازيا أو بروليتاريا أو برجوازي صغير، ففي إنتاج الفكر الثوري والفكر عموما لا يتدخل البعد الطبقي في تحديد تفكير ذلك الفرد أو ذاك، بل يرتبط البعد الطبقي بالفكر في الغاية من ذلك الفكر أو أي جهة يدافع عنها ذلك الفكر، إذ الفكر في حد ذاته تحدده الخلفيات المعرفية/الفلسفية والسيكولوجية (التضامن مع المضهدين والمسحوقين) والسياسية، بمعنى أكثر وضوحا أنه ليس بمجرد أن مفكرا ما ينتمي طبقيا للبرجوازية محكوم عليه بعدم إمكانية أو ليس له الحق في الانتماء والمساهمة في الفكر التغييري، بل نجد العديد من الاشخاص المدافعين عن قضايا التغيير ولكن طبقيا ينتمون إلى الفئات المسؤولة عن عرقلة قضايا التغيير.

  إذا الموقف الثوري أو عموما موقف التغيير لا تنتجه الطبة العاملة التي من مصلحتها التغيير، بل ينتجه المثقف الذي يستقرأ الفكر كما فعل ماركس فيما يخص الماركسية - إذ استخلص مجموعة من المقولات والاراء انطلاقا من قراءة أوطاع الطبقة العاملة، وليست هي التي أنتجت لذاتها فكر الماركسية- هذا المثقف هو المعني بإيصال فكر التغيير للطبقة العاملة لتنتقل من حالة "في ذاتها" إلى "لذاتها".