السبت، 27 فبراير 2016

الزمان والدلالة الاجتماعية في رواية "خريف العصافير" لخالد أقلعي.

الزمان والدلالة الاجتماعية في رواية "خريف العصافير" لخالد أقلعي.

 

مدخل:

  رواية "خريف العصافير" الحائزة على جائزة محمد الحمراني (الرتبة الأولى) بميسان العراق، رواية ماتعة رائعة خطتها أيادي الروائي المغربي  خالد أقلعي.
  إن رواية "خريف العصافير" منذ بدايتها إلى نهايتها تأخذك بلغتها الانسيابية الرصينة إلى عوالم متعددة متنوعة المستويات من الاجتماعي إلى النفسي إلى العاطفي... فأنت حينما تقرأ فقرة من الرواية ثم تنتقل إلى فقرة أخرى لا تحس بعنف الانتقال أو بقطيعة حادة، بل تكاد تشعر بأنك مازلت تتجول في نفس معالم الصورة السردية التي تبنيها الرواية.
  إن الأحداث في الرواية تدور حول   الشخصية المحورية "جعفر" الذي يقرر أن يقوم بفعل إرهابي في فندق النخيل هو وصديقه "لمفضل" نتيجة تأثرهما بأفكار جماعة دينية متطرفة، لكن الأمور لم تأخذ  المجرى الذي خطط له جعفر الذي كان ينوي أن يفجر مع زميله لمفضل فندقا، بل ستنقلب كل الأمور نتيجة التقاءه داخل هذا الفندق "بفنة" صديقته القديمة في مدينة "رموش العروس"، هذا الالتقاء الذي غير حياة جعفر لن يسير في مجرى إيجابي، فزميله لمفضل سيقدم على خطوة التفجير أثناء تردد جعفر بعد رؤيته لفنة، سيكون لذلك انعكاسا مأساويا فيما بعد نظرا لتأثره الشديد جسديا بالانفجار الانتحاري الذي أقدم عليه صديقه "لمفضل" الذي  على إثره سيدخل إلى المستشفى.
   في المستشفى يبدأ زمن مغاير بالنسبة لجعفر، ستبدأ سلسلة تحقيقات الشرطة و استرجاع ذكريات الطفولة التي عاشها في كنف أسرة أبيه، والحوادث التي تعرض لها في مدرسته مع أصدقائه ثم  الابتعاد عن هذا العالم والذهاب في رحلة البحث عن أمه الذي سيصدمه عالمها الذي تعيش فيه، عالم الدعارة بمدينة "رموش العروس"، ثم الدخول في عالم العمل في معمل رجل الأعمال " الحاج عشيبة"، وهنا سيعيش تجربة وأحداث ستؤثر أشد التأثير على حياته نتيجة الصراع النقابي مع "الحاج" ورئيس النقابة اللذان سيتحالفان لإدخاله السجن بتهمة السرقة، وفي هذا الأخير سيتعرف على أفكار جديدة ستحدد مصيره بانتمائه لجماعة متطرفة ستدفعه إلى أن يفجر نفسه في فندق النخيل. وفي نهاية الرواية سيكون الحظ مع "جعفر" إذ ستنقده حالة عدم التذكر ونسيان  كل شيء من دخول السجن، لكنها أيضا إعلان بداية شريط من المعاناة الأسرية من أجل يستعيد جعفر حياته السابقة.

الزمان في رواية عناقيد العصافير:

  إنّ أيّ عمل روائي لا بد أن يتوفر على عنصر الزمان وعنصر المكان، وهما عنصرين هامين في العمل السردي وخاصة في الرواية، إذ يؤديان دورا هاما وفعالا، لأن قيمة العمل الروائي تكمن في نقل الأحداث و تصوير الشخصيات، و لا يتأتّى هذا إلا بوجود  هذين العنصرين المتفاعلين المقعدين لأحداث الرواية.
  نرى أن الزمن السردي في الرواية زمن مركب فأحيانا نشاهده خطا صاعدا وأحيانا معكوسا يرجع بنا إلى الخلف (الماضي). إن الزمن السردي ينطلق هنا من حاضر لحظة فندق النخيل في يوم السبت 18 ماي 1994 إلى لحظة استطاعة جعفر المشي، تتخلله عملية استرجاع الماضي (فلاش باك)، شكل إيقاعي  يتبادل الأدوار ما بين السرعة والبطء.

  ومن المقاطع السردية الدالة على هذا البناء التركيبي الزمني ما بين الحاضر والماضي نجد فقرات من الصفحات الأولى للرواية حينما يدخل إلى فندق النخيل، المكان الذي سينفد فيه ما قرر المجئ من أجله، ولكنه في لحظة تأخذه الذاكرة إلى أمكنة أخرى عاشها في حيواته السابقة: " .. يستمر جعفر مشدوها إلى وابل المصابيح الملونة تفضح حشرا من أجساد شبه عارية تتلوى مثل الأفاعي على حلبة الرقص، توشي بأزواج متناثرة في الزوايا المعتمة ملفوفة بغياب شهواني، منجرفة إلى التحام آسن وعناق وقبلات ... ومثل البرق تلمع في ذهنه صور الماخور إياه؛ سجن أمه المقيت بمدينة "رموش العروس". يستعرض في رمشة عين مكنون أسراره، ضحاياه وجلاديه: مزيود، الداهي، طامو، فنة، سيوانا والأخريات ...". (ص 10).
  في هذا السياق نرى أن الجدل القائم ما بين الماضي والحاضر هو جدل مبني على تيمة الحزن ومأساة الواقع والعوائق التي يقيمها في وجه الحلقات الأضعف في المجتمع. فلا نجد انقطاعا ينقلنا إلى فرح حقيقي وأمل كبير، فحتى لحظة زواج جعفر من فنة شابتها صور الحزن والقلق  " ... مليكة الضاحكة الباكية المزغردة التي يضمها سي علال إليه كلما أحس أن غرابة الموقف توشك لأن تهزم قدرتها على التحمل والصبر؛ كم التمست من الله أن يمتد بها العمر لتشهد هذا اليوم الذي تخيلته في ألف صورة وصورة، إلا هذه الصورة التي هو عليها اليوم ! ..." (ص159).
   عموما، فإن  الزمن السردي في رواية "عناقيد العصافير" يختلف عن الزمن في البنية السردية التقليدية، حيث إنه  في الرواية التقليدية خطي لا يعرف التكسر و التجزؤ، فهو يبدأ من البداية ليصل إلى النهاية، فالبنية الروائية التقليدية هي بنية تنبني على صور متسلسلة مرتبة متتابعة زمنيا.  وهذا الأمر لا نجده في البنية السردية للرواية الجديدة التي تنتمي لها رواية خالد أقلعي "خريف العصافير"، حيث إنّ الزمن  يربط الماضي بالحاضر في رؤية فنية شاملة فيها  روعة الخيال، وقوة الإيحاء. وهو الأمر الذي رأيناه على طول صفحات الرواية، حيث نزع الروائي خالد أقلعي إلى خلخلة عنصر الزمن.
  في سياق الحديث عن الزمن في الرواية نلاحظ لجوء الكاتب إلى أنواع زمنية ذات مرجعيات/خلفيات سوسيولوجية نفسية تجد تعبيراتها وتجلياتها في سلوكات وتصرفات شخصيات الرواية وأنواع العلاقات التي تربط فيما بينها ، وخصوصا لدى الشخصية المحورية للرواية "جعفر". فالزمن في هذه الرواية هو الأداة التي تحدد وتشكل الأحداث وتداخل تفاصيلها. إن الزمن هو الرمز المحدِد   ( زمن فندق النخيل / زمن المستشفى / زمن الشعارات النقابية / زمن الجماعة الإرهابية/ زمن الخروج من المستشفى). وبالتالي فالمقاطع السردية تحول فيها الزمن إلى قضية لها أبعاد اجتماعية ونفسية ، كما هو الشأن في زمن الانفصال عن الأب وعن الحي الذي نشأ فيه ولحظة الالتقاء بعالم الأم الذي شكل صدمة نفسية له، ففي  الصفحات 39/40/41 تتضح بجلاء تلك الصورة الفنية للزمن وعلاقته بالحالة النفسية.
كما تجدر الملاحظة أنه من خلال قراءة نص الرواية نلحظ أن الروائي خالد أقلعي استخدم تقنيات روائية و آليات سرد عديدة ومتنوعة كاستخدام فلاش باك وتوظيف الخطاب العاطفي الدال على الغضب والهذيان والحزن والثأر والانتقام وإدماج الأبعاد الاجتماعية والعلاقات المرتبطة بها.

- الدلالة الإجتماعية في رواية "خريف العصافير":

  يرتبط البعد الاجتماعي بدراسة الوقائع الاجتماعية في الرواية، ذلك أن كل رواية هي جزء من الحياة الاجتماعية و الثقافية، و هي ترتبط ارتباطا وثيقا بالمجال الاجتماعي لمجتمع معين. كما لا يمكن التعرف على دلالة الأحداث في الرواية و أبعادها دون سبر مختلف العوامل ومنها العوامل الاجتماعية. إذ عالجت الرواية مجموعة من القضايا والظواهر الاجتماعية التي أفرزت العديد من المشاكل السيكولوجية التي نتجت عنها كوارث مدمرة للمجتمع وللفرد. 
  وكما أشارت لجنة تحكيم الجائزة في تعليلها لفوز رواية عناقيد العصافير بقولها :" ... فضحت هذه الرواية ما يتعرض له الإنسان العربي من ممارسات وإكراهات سلطوية على مختلف المستويات الإجتماعية والاقتصادية والثقافية التي تجعله عرضة للانهيار والارتكاس والانحراف وانعدام الرؤية الصحيحة".
     إذا ما عدنا إلى روايتنا فإننا سنجد أنها ترتبط بسياق اجتماعي مركب يعكس مختلف الفئات الاجتماعية التي تتجلى كشخصيات في أحداث الرواية، و هذه الشخصيات تعكس حالات نفسية من الشك والغضب والطمع والانتقام الناتجة عن أوضاع اجتماعية معينة.

   إن العمل الروائي لخالد أقلعي مرتبط بالمجتمع المغربي، إذ سلط الضوء على  مختلف فئات هذا المجتمع عبر شخصيات الرواية. فالعلاقة بين الرواية و المجتمع تتكشف من خلال المعاناة التي يعيشها جعفر طوال مراحل حياته، إذ يعيش حياة صعبة في أسرة أبيه بسبب زوجة أبيه الثانية. وتتكشف أيضا عبر حضور ظاهرة الفقر الذي يدفع إلى مجموعة من السلوكيات غير الإرادية مثل الدخول في عالم الدعارة بالنسبة "لفنة" وأم جعفر "مليكة" من أجل تأمين طرق استمرار حياتهم، وهذا الواقع حيث النساء يبعن جسدهن ليعشن قد شكل صدمة نفسية لبطل الرواية ستصاحبه طوال مسيرته في الرواية.
   و السارد لا يحمل هذه الشخصيات مسؤولية المسار الذي ساروا فيه، بل  هو يدين الجهات التي تتحكم في مقاليد المال والسلطة. فهو من خلال العلاقات الاجتماعية والأحداث التي بنية عليها الرواية يشير بطريقة غير مباشرة إلى تحالف السلطة والمال من أجل الحفاظ على استمراريتهما في مواقع الغنى والرفاهية عن طريق استغلال الفقراء والضعفاء من لا سند لهم، وهذا يتجلى في شخصية "لا طامو" بمدينة رموش العروس وشخصية"عشيبة" صاحب الأموال ورجل الأعمال الذي يتحكم في مسؤولي المدينة كما يشاء من خلال سلطة المال.
  في هذا السياق نلاحظ غياب دور الدولة ومؤسساتها تاركة مصير الفقراء مبني على المجهول وأفاق سوداء. و تتعمق هذه التداعيات بممارسات أخرى مثل الخيانة التي تجسدت في علاقة "عبد النعيم" المدير العام لشركة الحاج عشيبة والخادمة "بديعة" زوجة المهدي سائق حافلة الشركة، و الانتهازية و النفاق التي تجلت في رئيس نقابة عمال الشركة "الذويب" الذي سيتحالف مع "الحاج عشيبة" ليزجوا بجعفر في السجن بتهمة السرقة.
   لقد اهتم خالد أقلعي في عمله هذا بتقريب الرواية من الحياة الفردية، و تصوير ما تواجهه في واقعها الاجتماعي من أصناف الانهزام و الإحباط واليأس، نتيجة الفقر و الحرمان والخيانة، في ظل انحياز الدولة للأغنياء و اللصوص و تنكرها للفقراء و المحرومين، الشيء الذي يترك لدى الضعفاء والمهزومين حالة من الحقد والكراهية يفرغونها من خلال العنف الموجه للمجتمع نفسه.
    من خلال ما سبق، نلاحظ أن الرواية تتموقع في صف التضامن مع هؤلاء المتنكَّرِ لهم والمنسيين، مع عالم جعفر الذي يرمز إلى التحولات التي يعرفها عالمنا المعاصر الذي وصل إلى درجة نسيان نفسه وعدم تذكره أي طريق يتخذها وكيف يمشي في هذه الطريق، إن جعفر هو الإنسان المعاصر الذي أصابه التيهان والحيرة والنسيان ولكنه ليس مسئولا مباشرا على ذلك، بل هناك قوى أقوى وأشد منه فرضت عليه واقعا مرا.
  الرواية تخاطبنا بأن لا ننخدع بالمظاهر وأن نحكم بشكل متسرع أخلاقيا على مجموعة من الظواهر بدون معرفة أسبابها العميقة، فما وراء المظاهر نجد أفرادا لهم أخلاقا عالية و قيما تتجسد في الحب  و التضامن و القدرة على التضحية و العطاء.


  فالرواية من خلال تركيزها على شخصية "جعفر" والتعمق في دواخله وعالمه أو الفضاء الذي يتحرك فيه تعلن انحيازها إلى فضح و انتقاد الفساد الاجتماعي و الاقتصادي المهيمن على المجتمع (مدينة رموش العروس كمثال)، وهذا ما تجلى خصوصا في  حوارات "جعفر" أيام  نضاله النقابي، التي تكشف حدة في النقد و مرارة في السخرية من واقع تلاشت وتراجعت فيه القيم، و غابة العواطف، و أصبح الإنسان فيه سجين  الاغتراب  والمأساة  و الضياع. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق