الأحد، 4 مايو 2014

دور المدرسة الألمانية في تطور الفكر الجغرافي. (الجزء الثاني).

3- حركة التجديد:

  ظلت الجغرافيا الألمانية، إلى ما قبل الحرب العالمية الأولى، ورغم ما شهدته من نقاش، تعيش حالة اضطراب بسبب الغموض الذي بقي يكتنف موضوعها. ويذكر جيتسبك أن مفهوم "اللاندسكيب" الذي أخصب الجغرافيا الألمانية وبعثها من مرقدها، مفهوم ولد في أحضان المدرسة الابتدائية أي ما يسمى بالجغرافيا السردية أو الموسوعية. وفي بداية القرن العشرين تخلصت الجغرافيا الألمانية من تأثيرات راتزل وقامت بتطوير موضوع البيئة وإفراغه في قالب الدراسة الإقليمية وفق ما كان يراه هتنر ورختوفن ومن سبقهما من كبار حغرافيي القرن التاسع عشر، وإن كانت هذه الجغرافيا الإقليمية ستركز بالأساس على موضوع استأثر بكل الاهتمامات: ألا وهو موضوع "المشهد".

3-1 اللاندشيفت:

يعتبر مفهموم اللاندشيفت جوهر المدرسة الألمانية، (ومعناه في المدرسة الجغرافية العربية الحديثة "المشهد") إذ كان هناك اعتقاد سائد بأن مفهوم "اللاندشيفت" ثمرة منحتها المدرسة إلى الجامعة، فهناك أيضا من يرى غير ذلك كشلت (1980)، الذي يرجع هذا المفهوم إلى كتاب "الجغرافيا العسكرية" الذي ألفه هوميا في بداية القرن التاسع عشر، سنة 1850. ويعتبر أوطوشلوتر "أول من جعل من الجغرافيا علم المشاهد"، والذي لم يكن يرمي إلى أبعد من وصف اختلافات السطح نتيجة تفاعل العوامل الطبيعية، وإن كان لا يمانع في بحث الجوانب المستورة من تلك الظواهر. وهذا ما أقدم عليه بالفعل غيره. ولكي تتأسس المدرسة الألمانية كان لابد من تجاوز هذه المواقف المختلفة ولم شتاتها. وهذا ما حدث ابتداء من سنة 1910.

3-2- دلالات مفهوم "المشهد":

  في كتابه "طبيعة الجغرافيا" تعرض هرتشون لمفهوم "اللاندسكيب" عند الألمان، فبين ما فيه من غموض وشبهة، ثم جاء هارد ليؤكد نفس الملاحظة. وكلاهما يريان لنفس اللفظة دلالة مزدوجة تعني "المشهد" بمعنى "الإقليم" ككيان يندرج في تصنيف مكاني معين، وأيضا " الوحدة المجالية". وهكذا كان محرك الجغرافيا الألمانية في بداية القرن العشرين تياران:

- الأول يحلل التفاعلات ويطمح إلى تقديم تفسير علمي للمكان، وهو اتجاه يتصل بريتر عبر كوكبة من الجغرافيين منهم كرشوف و وول وجتسبك.

-  أما الثاني، أي التيار "الجمالي" أو "الانطباعي"، فهو اتجاه لاحق يولي الاهتمام أولا وقبل كل شيء إلى الواقع المحسوس وما ينطوي عليه من تنوع كما عبر عن ذلك لفيف من الباحثين (راتزل، هوميا، شون، فيمر...).

  هذا التقابل بين جغرافيا تعميمية و معيارية تهتم بانتظام الظواهر وتصنيفها بغية اتخراج قوانينها ، وجغرافيا إقليمية تعطي الأسبقية للتحليل الأحادي ودراسة الوحدة المنفردة، مازال يغذي الجدل حتى يومنا هذا، داخل المدرسة الألمانية وخارجها.

  غير أن البحث الجغرافي الذي جعل من المشهد موضوعا له قلما بلغ أهدافه وحقق طموحاته بسبب فرطه في التدقيق والتحري في الجزيئات، إذ غالبا ما يركز الباحث اهتمامه على رقعة محدودة المساحة متجانسة المظهر، الأمر الذي يحد من الرؤية ويضيق أفاق التأمل الواسع والتفكر العميق.

4- المدرسة في الميزان:

  إذا كانت المدرستان الألمانية والفرنسية تسعيان كلتاهما إلى نفس الهدف، أي إلى وضع تقسيم دقيق المعالم للعالم أو المجال، فإن الأولى تعتمد في ذلك على مفهوم المشهد، ينما تركز الثانية على دراسة العلاقات بين الإنسان والبيئة. وهذان الموضوعان البارزان اللذان شغلا البحث الجغرافي خلال القرن التاسع عشر. ومع ذلك لا يجوز حصر المدرسة الألمانية في القالب الإقليمي الضيق وتفسيرها فقط بالمبادئ التي أرساها ألفرد هتنر. فمدرسة المشهد لا تتعارض مع الرؤية الإقليمية الصرفة، بل تكملها في كثير من الأحيان، وربما هذا ما جعلها أكثر تماسكا وجنبها لمدة طويلة التعرض للنقد والتجريح.

  غير أن النموذج الذي فرضته المدرسة المشهدية والذي قيدت به البحث الجغرافي جعل الجغرافيا الألمانية تغفل أو تتغافل عن الجوانب الاجتماعية، وإن اهتم بعض كتباها بعد الحرب- مثل هانش بيك بجامعة فيينا ولفجنج هارتك بميونخ- بموضوع البنيات الاجتماعية الذي قاد إلى دراسة الأنظمة الاقتصادية والاجتماعية في علاقتها مع البورجوازية من جهة، وإلى تحليل أشكال استعمال الأرض عند الطبقات المتوسطة ودراسة مخلفات المجتمع الريفي التقليدي من جهة أخرى، لكن دون محاولة التخلص من المسلمتين الأساسيتين اللتين تشكلان عماد الجغرافيا الألمانية: ترجيح التأويل- تأويل المشهد- على التفسير والتعليل، والعمل على إبراز روح الجماعة بعد استبدال الطبقة الإجتماعية بالسلالة، لتبرير مفهوم أحقية التوسع في المجال الحيوي. وقد يكون هذا سببا رئيسيا في عدم قدرة الجغرافيا الألمانية على تجاوز مرحلة التصنيف وتخلي الباحثين عن مشروع مؤلف مشترك حول الجغرافيا الإجتماعية.

  إن المدرسة الجغرافية الألمانية وإن كانت بدورها تساير التطور وتأخد بعين الاعتبار التمايز المكاني، فقد عكست الاية، إذ قدمت السلالة (العرق) على التراب (المجال)، وهنا يتبين تأثر المدرسة الألمانية بالنزعة العنصرية القومية (النازية) وفي هذا السياق يأتي اعتناؤها بالمشهد الذي أصبح جوهرها وموضوع بحثها المفضل.

خاتمة:

  لا جدال في أن هذا الصرح الذي شيدته المدرسة الجغرافية الألمانية شامخ ومعلمة بارزة على درب الفكر الجغرافي. لكنه مع ذلك إنجاز تعرض لمجموعة من الهزات والانتقادات سواء داخليا أو خارجيا من المدارس الوطنية الأخرى. فأما العوامل الداخلية فهي تتلخص في حركة التنظير النشطة التي تنزع إلى توحيد المادة خصوصا بعد الحرب العالمية الثانية، أما العوامل الخارجية فتتمثل في تطور المجتمعات وبروز مدارس أخرى عديدة، وهو ما سيجعل من المفاهيم والأدوات التي كانت متداولة في المدرسة الألمانية متجاوزة.


هناك 4 تعليقات: