الأربعاء، 19 نوفمبر 2014

اللغة العربية والتعدد اللغوي في مجتمع العصر الوسيط الإسلامي.


  خلال دخول الجيوش الإسلامية لمناطق جغرافية تستوطنها شعوب مغايرة عن العرب، وجدتها تمتاز بلغات شفهية ومكتوبة تجد تجلياتها في ثقافات وطقوس وفنون متعددة، مما نتج عنه تأثير وتأثر أو بمعنى أخر حصول عملية التثاقف. فمنذ بداية ما يعرف بالفتح الإسلامي منذ القرن الهجري الأول ستغزو اللغة العربية وتنتشر في مجتمعات أخرى مختلفة ثقافيا واجتماعيا وحتى اقتصاديا. وقد انتشرت اللغة العربية بفعل مجموعة من العوامل منها، اتخاذ اللغة العربية من طرف "الخلفاء بعد مرحلة تجربة طويلة، لغة للإدارة والعملة، بينما ساهم في تعليمها والتدريس بها عرب وموال تربوا في بيوت عربية منذ صدر الإسلام. وتعلم كثير من غير العرب لغتهم إما عن طريق التعامل اليومي في الأسواق والأحياء أو الجيوش. وقامت المساجد والكتاتيب ثم حلقات الصوفية والزوايا بدور كبير في نشر العربية كلغة للدين والمعارف الإسلامية"1.

  إن هذا التأثير الذي مارسته اللغة العربية بفعل سيطرة حاملها المادي أي الدولة العربية- الإسلامية يتجلى ويبرز في إدخال وتعريب مجموعة من المصطلحات والأسماء عند المجتمعات التي تم غزوها.
  وستعرف اللغة العربية في هذه المرحلة تمايزا ما بين الشرق والغرب، فتجدها في الشرق قد انتشر وهيمن عليها "اللحن والمؤثرات الأعجمية العديدة" نظرا لتعدد اللغات والثقافات العريقة في تلك المنطقة مثل الفارسية، في حين أنها في الأندلس تأثرت بنزوح بني هلال مما أكسب وأغنى اللغة هناك بمجموعة من المصطلحات العربية العريقة. وما يشهد على تأثير اللغة العربية في الشعوب غير العربية الإنتاجات الفكرية واللغوية التي أبدعها غير العرب كسيبويه وأبي قاسم الزجاحي، إذا لمثقفي وعلماء ذاك العصر دور كبير في نشر وإبراز الثقافة العربية.
  ذاك التمايز ما بين المشرق والمغرب يدل على أن اللغة العربية في مستوى التداول اليومي لم تعد موحدة كنسق لغوي على امتداد مجال هيمنة الثقافة العربية-الإسلامية، فعملية تحويل اللغة العربية إلى لغة الشارع فرضت عليها حصول ما يعرف "بالتدريج" (الدارجة، العامية ...) أي أنها أصبحت عبارة عن لهجات تتماشى مع الخصائص المحلية لكل مجتمع على حدا، لذلك حذر الجاحظ في كتابه "البيان والتبيين" من رواية القصص والنوادر المخصصة للعوام باللغة العربية فذلك يفسد المتعة والتمتع بها2، فقول الجاحظ هذا يدل على أن السائد عند الأغلبية "العامة" ليست اللغة العربية الفصحى وإنما لغة عربية محرفة.
  على الرغم من هذا التوسع الكبير للدولة العربية- الإسلامية وما صاحبها من انتشار للغة العربية، وكذا بفعل امتداد التجارة العربية لمجموعة من المناطق الإفريقية خصوصا في سواحل شرق إفريقيا، الشيء الذي أفضى إلى انصهار مجموعة من المصطلحات مع اللهجات المحلية وأصبحت تسمى باللهجة السواحلية3 خصوصا في العهد الفاطمي. قلنا بأنه على الرغم من هذا التوسع الكبير، فقد حافظت مجموعة من الشعوب على استقلاليتها وتميزها اللغوي مثل شعوب الفرس، التي يشير ابن النديم إلى كونهم كانوا يمتلكون خمس لغات،" منها االفهلوية بعدة مناطق، والفارسية بمنطقة فارس (الجنوبي لإيران)، والسريانية... وكانت الفارسية لغة رجال الدين والمثقفين بينما السريانية أيضا لغة نصارى العرب في كتاباتهم وطقوسهم. ويذكر الأصطخري أن الفهلوية كانت لغة المجوس في مكتباتهم، وأنها تحتاج من أهل فارس إلى ترجمة حتى تعرف".
  والأمر لم ينحصر في الحفاظ على التميز والاستقلالية بل كان هناك تأثير في الثقافة العربية من خلال الفنون والمعمار والتنظيم الإداري والفلسفات... ويذكر مجموعة من الجغرافيين حصول احتكاك ما بين الفارسية والعربية في عدة مناطق منها خوزستان5 وبأذربيجان وأرمينية ...6
   إن هذا التداخل والحضور المتعدد للممارسة اللغوية، شكل مشكل الازدواجية لا سواء في الحقل الثقافي أو خلال التعامل اليومي في تلك الفترة التاريخية، وفي هذا يقول الجاحظ متحدثا عن أحد المدرسين "كانت فصاحته بالفارسية في وزن فصاحته بالعربية وكان يجلس في مجلسه المشهور به، فتقعد العرب عن يمينه، والفرس عن يساره، فيقرأ الآية من كتاب الله، ويفسرها للعرب بالعربية، ثم يحول وجهه إلى الفرس فيفسرها لهم بالفارسية، فلا يدري بأي لسان هو أبين "7.
  فالمجتمعات التي وصل الإسلام إليها والتي تعتبر عريقة في الحضارة قد حافظت إلى حدود معينة على استقلالها اللغوي مثل مجتمعات الترك والفرس وكذلك بعض المجتمعات الأمازيغية في الغرب الإسلامي، فالتأثير اللغوي كان متبادلا بفعل احتكاك أجناس متعددة ومختلفة، وكذا بفعل الحاجة التجارية والاقتصادية، وللأغراض العلمية كما في حالة الرحلات خصوصا الرحالة الذين يطول سفرهم ومقامهم، فنجد ابن بطوطة قد تعلم لسان الترك ولسان الفرس8. كما ساهمت عملية الترجمة في عملية التأثير اللغوي خصوصا ترجمة المؤلفات الهندية في عهد الرشيد العباسي الذي أرسل البرامكة بعثة طلابية لتعلم ومعرفة العلوم الهندية. وقد تأثرت اللغة العربية بلغة الترك من خلال دخول مجموعة من المصطلحات العسكرية والإدارية والمهنية، والعكس صحيح. كما ظلت الأمازيغية عبر قرون مديدة رغم تأثرها بالعديد من مصطلحات اللغة العربية محافظة على تميزها اللغوي خاصة في عملية التواصل الشفهي.


  من خلال ما سبق يمكن أن نستنتج بعض الأفكار الأساسية:
1- هناك تمايز ما بين المكتوب الذي غلبت عليه اللغة العربية الفصحى إلا في حالات نادرة كما في المناطق الفارسية، وما بين الشفهي الذي عرف تعددا وتنوعا خصوصا بعد ظهور اللهجات في اللغة العربية نفسها؛
2- التأثير المتبادل للثقافات المتجاورة والتي وصل إليها المد العربي- الإسلامي، الشيء الذي انعكس في مجال اللغة؛
3- المفارقة ما بين لغة الثقافة والدين ولغة التفاعل اليومي، فالأولى تستعمل فيها اللغة العربية الفصحى والثانية تغلب فيها اللغات المختلفة واللهجات؛
4- العالم العربي- الإسلامي رغم هيمنة اللغة العربية على مفاصيل الدولة والإدارة وارتباطها بالحقل الديني فقط ظل هناك هامشا كبيرا للغات المختلفة للتداول وللمجتمعات المغايرة أن تعبر بلهجاتها ولغاتها، خصوصا في الأمور الاقتصادية التجارية.
ولكن يظل هناك سؤال محوري، هل هذا التعدد فرضته الضرورة الاجتماعية- الاقتصادية أم نتيجة روح التسامح وتقبل الأخر في الثقافة العربية- الإسلامية ؟









1- حركات إبراهيم، المجتمع الإسلامي والسلطة في العصر الوسيط، ص 40.
2-الجاحظ ، البيان والتبيين، 1، 172.
3- باذل دافدنصن، إفريقيا، 282.
4- حركات إبراهيم، نفس المرجع السابق، ص 43.
5- الحميرين الروض المعطار. مادة توزستان.
6- الاصطخري، ص 112، 121. ياقوت، مادة كردز، خوارزم.
7- الجاحظ، البيان والتبيين، 1، 278.
8- ابن بطوطة، رحلة1، 199.

السبت، 9 أغسطس 2014

الصراع ميزة الإنسان.


 



إن الإنسان عبر تاريخه عرف تطورات وتغيرات عديدة، إلا أننا نجد أن هناك ثابت ظل يسايره ويلازمه لم يراوحه ألا وهو ثابت الصراع. فالمجتمعات البشرية منذ بداياتها الحضارية تميزت بالحروب والصراعات فيما بينها إلى اللحظة الراهنة.
   إذا هل يمكن أن نقول أن الحضارة والحرب متلازمان لا ينفصلان؟ هل الصراع ميزة البشر كما التفكير والكلام ... ؟ كيف يمكن أن نفسر هذه الاستمرارية رغم تقلب الأحوال وأنماط العيش وبروز أفكار جديدة ونظم جديدة لتسيير حياة الإنسان وكذا تطور التقنية؟ كيف أن كل هذا التقدم والتطور لم يمنع أو يحد من شدة الحروب التي شهدتها وما تزال مسيرة البشر على هذا الكوكب؟.
  إن هذا يمكن حسب تفسيرنا أن يجد أحد تفسيراته في أن الصراعات سواء داخل مجتمع معين أو ما بين المجتمعات هي نتيجة للطبيعة الانقسامية للمجتمعات البشرية، بمعنى أن الوجود الفعلي والواقعي ليس لمجتمع بشري متجانس وإنما لمجتمعات بشرية منقسمة تتشابه في أمور وتختلف في أمور أخرى ، والوجود أيضا ليس لمواطنين متجانسين في ظل مجتمع موحد بل الوجود لتكتلات سواء أسرية أو عائلية  أو فئوية تربطها مصالح مادية ومعنوية تحفظ لها وجودها، وهي ما يمكن تسميته بالمجتمعات الصغرى. هذه المجتمعات ترتبط فيما بينها وتتواصل من خلال مجموعة من العمليات، والتي يعتبر الصراع هو الجزء المركزي فيها أو الدينامو المحرك لها. والصراع هو عملية تواصلية ذات منحى عنيف سواء ماديا أو رمزيا.
  فالطبيعة الانقسامية للبشرية هي مرتبطة بالبدايات الأولى لنشأة الجنس البشري كجنس يحاول أن يتجاوز المرحلة الحيوانية، ففي البدايات حينما لم يصل بعد لمرحلة الانتقال من الطبيعة إلى الثقافة، لم يكن معطى الثقافة حاضرا ، لكن مبدأ الصراع كان حاضرا، إذا  خاصية الصراع تتجاوز معطى الثقافة فهو سابق لها. فالصراع هنا ليس له ارتباط ثقافي بقدر ما له ارتباط بمعطى الانقسام الذي يميز الجنس البشري.
  غير أن ظهور الثقافة لا يعني أنها ستلعب دورا إيجابيا في تقليص دينامية الصراع بل  ستزيد حسب ما يشهد به التاريخ من حدة الانقسامات وبالتالي ستزيد من حدة الصراع وهذا ما يدل عليه مسار التطور البشري فكلما تزايد عنصر الثقافة – الثقافة بالمفهوم الشمولي أي العادات والتقاليد والأديان والتقنيات ...- تزايدت حدة وشدة الصراع (علاقة تطور التقنية بالحرب العالمية الأولى والحرب العالمية الثانية كنموذج).
  فهل يعني كل هذا أنه مادام الجنس البشري يتميز بالانقسام فإنه سيظل جنسا متصارعا؟
  نعم، بل حتى هذه الطبيعة الانقسامية لن يجد الإنسان لها طريقة يتخلص منها، لأنها ترسبت فيه عبر التاريخ ويتم تناقلها من خلال مجموعة من القيم أو البنى الفكرية التي توجه طرق تفكيرنا ويتم إعادة إنتاجها وتكييفها مع كل تطور جديد.
  كما لا ننسى بأن هذه الانقسامات تتحدد انطلاقا من محددات عديدة ومختلفة فهناك محددات اقتصادية، هذا غني وهذا فقير، وهناك محددات سياسية للعمليات الانقسامية هذا يميني وهذا يساري... وانقسامات ثقافية وهكذا، ومثلا في العصور السابقة كالعصور الوسطى نجد هذا من النبلاء وهذا من الفلاحين المعدومين ... وهكذا دواليك دوما هناك دوافع محركة للعملية الانقسامية. إذا هذه العملية تحركها كما قلنا دوافع اقتصادية وسياسية وثقافية تتغير تمظهراتها ولكنها تظل تنتج لنا نفس النتائج، وهي المزيد من الانقسام.
  وتتجلى الانقسامية في هذا التحليل وكأنها متعالية على الإنسان والمجتمع تتحكم فيه وهو لا يجد لها مخرجا، إنها ليست كذلك، لأنها هي أيضا كباقي الظواهر، من صلب الطبيعة البشرية، فهي لم تفارقه حتى تكون متعالية، فمثلا هل يمكن للكلام أو التفكير أن يكون متعاليا عن الإنسان، لا.. لأنه من خصائص البشر ملازم له وكذلك الانقسام هو من خصائص البشرية ملازم له.
 الانقسام ينتج مزيدا من الانقسام، وبالتالي المزيد من الصراعات والحروب، ومادام أن الانقسام قد حصل فلا سبيل لإيقافه لأنه انغرس في الذات البشرية، ويجد دوما دوافع تحركه في صلب أنظمتنا سواء الاجتماعية أو الفكرية أو الاقتصادية.

الاثنين، 4 أغسطس 2014

"كرة القدم" .. حينما تصبح الرياضة هوسا.




كرة القدم، الرياضة التي يعشقها الملايين على الكرة الأرضية، الرياضة التي سرقت قلوب وعقول ملايين البشر. فما هو سرها حتى وصل تأثيرها إلى هذه الدرجة ؟

  تشكل كرة القدم في وقتنا الراهن مجالا قويا للاقتصاد، والاقتصاد تصاحبه السياسة. فهذه الرياضة قد تحولت لمصدر إلهاء في يد النخب الحاكمة، إنها أفيون جديد للشعوب، على صيغة كارل ماركس الشهيرة "الدين أفيون الشعوب". لقد أصبحت هذه الرياضة تزاحم أدوار ووظائف العقائد والأيديولوجيات، فكرة القدم بصيغتها الحالية هي تجلي للرياضة حينما تصبح شبه أيديولوجيا. إذا يمكن الحديث هنا عن فلسفة معينة للرياضة، بعبارة أخرى يمكن للرياضة وخصوصا كرة القدم أن تصبح حقلا للدراسة المعرفية من أجل معرفة أسس وأسباب قوتها وتفكيك الشبكة المتحكمة فيها، ولأية أغراض؟ خصوصا حينما نرى الأجور المهولة التي تعطى لمشاهير كرة القدم. فهل لمجرد معرفة شخص ما كيفية المراوغة وتمرير الكرة سيأخذ أجرا يصل إلى 20 مليون أورو مثل حالة ميسي لاعب فريق برشلونة  وكرستاينو رونالدو لاعب فريق ريال مدريد.

  لقد أصبحت كرة القدم تشغل وقتا كبيرا للشباب، فلا تجدهم يتحدثون إلا عن المباريات وأخبار اللاعبين والفرق... أصبحت عبارة عن طقوس وشعائر من نوع جديد. فالشباب في عصر العولمة الرأسمالية وفي ظل تراجع دور المؤسسات التربوية ومؤسسة الأسرة أي المؤسسات التوجيهية، لا يجد إلا كرة القدم ليظهر فيها حدود معرفته ...

  إن لكرة القدم دور كبير في تحريك وتوجيه تفكير ومشاعر المهووسين بها، فعوض الحديث عن مشاكلهم اليومية أو البحث عما يفيدهم من علم وعمل أو المطالبة أو الإبداع وممارسة الرياضة، تجدهم يعوضون عن ذلك بطريقة لا شعورية تتحكم فيها وسائل الإعلام، بالحديث ومتابعة المباريات والخروج في مظاهرات الفرح والسعادة ... لنتخيل لو خرج هذا الكم الهائل للمطالبة بحق من حقوقهم، كيف سيكون الوضع ؟

  الأمور يتداخل فيها السياسي والمالي، فالسياسي من مصلحته أن تكون الجماهير مغيبة مخدرة بأشياء تافهة لا تستحق كل هذا الهرج والمرج، لكي تظل الساحة فارغة له يفعل فيها ما يشاء ويتحكم كما شاء في تفاصيلها دون أن يجد معارضة شعبية حقيقية، والمالي أي الاقتصادي من مصلحته أن تظل الأجواء هكذا ويدعم السياسي ليحافظ عليها هكذا ويسيد ثقافة الفرجة والفرح الكروي من أجل تزايد الأرباح والأموال الطائلة، ففي كرة القدم يلتقي الاقتصادي والسياسي بشكل واضح.

  فلا بأس بالاحتفال بفوز فريق ما أو نقوم بسهرة احتفالية، فمن طبع الإنسان أن يحتفل لكي  يخفف عن ضغط اليومي ومشاكل العمل والأسرة إلخ... ولكن أن تصبح كرة القدم هوسا وصنما نعبده بطريقة غير مباشرة، فهنا يجب أن تقف الأمور ويبدأ العقل التحليلي في الاشتغال لمعرفة أسباب ودواعي مثل هذه الظواهر. فالاحتفالات لا يجب أن تبقى مستمرة أياما عديدة فهناك أشياء أخرى تستحق العمل وتتطلب مجهودات في مستوى تلك التي نقدمها في الاحتفال بفوز فريق ما. كرة القدم لا تستحق كل هذا الهوس. بل الأمور أصبحت تخرج عن إطار الاحتفال إلى ممارسات غير أخلاقية كالتحرش بالفتيات وإطلاق شتائم بذيئة…

  يجب أن نعيد النظر في مجموعة من ممارساتنا وأفعالنا، إذا أردنا أن نحصل على جزء من التقدم والتحضر، فالتحضر لن يكون بالخروج للشوارع وقطع الطرق وقول كلام فاحش، فليس هكذا يكون التعبير عن الفرح والسعادة، الفرح الذي يتحول إلى حزن لا نريده. فحينما تخرج الأمور عن حدها فاعرف بأن هناك شيء غير سليم وأن النتيجة ستكون وخيمة.

الأربعاء، 25 يونيو 2014

من ثقافة المعرفة إلى ثقافة السلطة.


  حينما تقود السياسة الثقافة، حينها تصبح السياسة ذات مدى آني، تصبح السياسة  سياسة بحث عن التنازلات لصالح مكاسب صغيرة وضيقة. إن السائد عندنا منذ السبعينات أي منذ تأجج الصراع الاجتماعي والسياسي سيادة ثقافة السياسة عوض سياسة الثقافة.

  إن للفعل الثقافي مساره الخاص وبنيته المستقلة نسبيا، غير أنه عوض أن يكون هو محدد أسس السياسة وتوجهاتها من خلال النقد والسؤال وتجديد الإشكاليات، أصبح العكس هو الصحيح أي أن الفعل الثقافي أصبح منزويا في ركن ضيق محاصرا ينتظر إذن السياسي لكي يستغله كآلية من آليات الصراع، كتقنية ضغط على الآخر المختلف. فالثقافة في هذا المستوى أصبحت ساحة للصراع حول المصالح السياسية وما يصاحبها من مصالح مادية اقتصادية، سواء أكانت فردية أو جماعية.  بمعنى أخر ما حصل وما زال هو "توظيف الثقافي لخدمة السياسي".
     إن غياب الفعل الثقافي المستقل وليس المستقيل، فالمثقف المنعزل نهائيا وبشكل مطلق عن القضايا المجتمعية وعن الديناميات الحاصلة فيه، هو مثقف مستقيل. فهناك فرق ما بين المستقل والمستقيل، فالمستقل هو المثقف الذي يترك هامشا أو فراغا لكي يتمكن من توسيع الرؤية وليرى المشهد من كل الزوايا إذا أمكن ذلك، فرغم انتمائه لحزب أو مؤسسة فلابد من ترك مساحة ما بين الذات والفضاء الذي تشتغل فيه، لكي تكون هناك إمكانية ممارسة النقد والتساؤل، فإذا المعنى هنا نسبي أي أن الاستقلالية نسبية وليست مطلقة. فغياب هذا الفعل الثقافي المستقل أنتج لنا ممارسات ومنظومات سياسية مغلقة ومنغلقة على ذاتها، مبنية على مجموعة من المقولات اليقينية، مقفلة أبوابها بشكل محكم لا تسمح بمرور سؤال نقدي كيفما كان نوعه.
  ثقافة السياسة أي الثقافة التابعة للممارسة السياسية وللصراع السياسي الضيق، دائما تواجه سياسة الثقافة أي السياسة المؤطرة ثقافيا والتي تساهم الثقافة  فيها بشكل واعي ونقدي لوضع منظور إستراتيجي متوازن لا يغلب هذا على هذا، تواجهها بشكل مستمر في محاولة دائمة لتوجيهها خدمة لتوجهات الماسكين والمتحكمين بثقافة السياسة.
  إن هيمنة التوجه السياسوي الذي يحتكر كل شيء حتى الثقافة من أجل الوصول بسرعة إلى الحصول على جزء من السلطة، يصطدم مع  ثقافة المعرفة باعتبارها قراءة وتحليلا ونقدا وبالتالي رؤية ذات أساس قويم، هاته المعرفة تتناقض مع الطابع الاحتكاري للسياسي الذي يريد سيادة فهم واحد ومقولات عامة لا يمكن مساءلتها... بعبارة أخرى غياب الفعل الثقافي المستقل يولد لنا جهلا سياسيا وبالتالي سوءا وخللا في التدبير والتسيير. وهذا ما يشهد به الواقع من غياب الذكاء السياسي الذي يخول القدرة على التخطيط والتدبير.
  إن هذا التناقص الحاصل، والمنطق السائد الذي يوجه السياسة والثقافة من خلال فهم معين أو بالأحرى من خلال أيديولوجيا مهيمنة، تدل على غياب مجتمع المعرفة.
  إن مجتمع المعرفة هو أحد ضروريات تحقيق وإنجاح برامج ومشاريع ومخططات التنمية البشرية أو التنمية المستدامة. فلا يمكن للتنمية بشكل عام أن تنجح في أرض غير متشبعة بالقيم والمعارف أي بالعلم والتعليم. فالإنسان هو هدف هذه المشاريع والبرامج وهو نفسه الواضع لها وصانعها، فكيف ستكون منطلقاتها وتطبيقاتها جيدة وملائمة في حالة إذا كان صناع القرار وجزء هام من المجتمع لا علاقة له بالعلم والمعرفة. بمعنى أخر في مجتمع الجهل أو المجتمع الجاهل عوض المجتمع العارف لا يمكن الحديث عن نجاح مشاريع التنمية كيفما كان نوعها، فغياب الثقافي وهيمنة السلطوي-السياسي يولد لنا فراغا وأزمات مجتمعية مستمرة.
   فالتنمية البشرية تتطلب أفرادا قادرين على الاستيعاب وعلى الإبداع والابتكار، فنحن أمام مفهوم التنمية أي مفهوم يحيل إلى الارتقاء والتطور والتحسن، وهذا لا يمكن أن يكون إلا بالقدرة على الصناعة والتجديد والابتكار... وأساس كل هذا هو سيادة العلم والتعليم الجيد، بمعنى تحقيق مجتمع المعرفة.
  فهذا الوضع المتأزم لا يتأسس على فراغ، بل هناك أطراف مجتمعية تسيده، فالكل يتحرك على رقعة أو شبكة من المصالح تختلف من فرد إلى أخر ومن فئة إلى أخرى، وكل نقطة تلتقي فيها مجموعة من المصالح ، الشيء الذي يحيلنا إلى صيرورة التحالفات والتناقضات، والمصلحة هنا نعني بها الاستفادة من شيء لصالح الذات الفردية أو لصالح الذات الجماعية بطريقة لا تخدم تقدم المجتمع. إذا هنا إشكالية أخرى وهي وجود أطراف وفئات تشكل عائقا أمام انتشار الفكر النقدي والمعرفة والعلم، أي انتشار ثقافة المعرفة.
  غير أن الوضع يزداد تعقيدا حينما نوجه أنظارنا إلى ما يسمى بالفاعلين في المجتمع المدني أو المثقفين، إذ نجد العديد منهم وقد أصبحوا آلة تستخدمها الفئات المحتكرة للسلطة، فالمثقف هنا عوض أن يساهم في السلطة انطلاقا من رؤية وقناعات ... نرى الحاصل هو العكس، نراه يجري نحو السلطة بشكل ينفي فيه ذاتيته، يساهم من خلال نفي عقله وفكره وإعدام قناعاته. لقد أصبح المثقف عبارة عن معبر أو قنطرة يمررون من خلالها القرارات سواء في الشأن الثقافي أو في غيره.
    لقد أصبح لدينا مثقف استهلاكي، مثقف يستهلك كل ما يعطى له من أوامر. فمن خلال ارتباطه بالسلطة  يرتبط بواقع حال المجتمع أي بمشاكله وتناقضاته وأزماته ... فهو يتعلق برؤية النخبة الحاكمة فيصبح أداة تبرير لسياساتها. فعوض القيام بمهمته التي تفرضها عليه ذاته المثقفة وهي التفكيك والمساءلة والنقد وبالتالي إنتاج المعرفة وإبداعها، نجده يكرس قيم الاستهلاك والتكرار والاجترار.


إسماعيل أعشير.
 Ismail.aachir@gmail.com

الاثنين، 19 مايو 2014

في نقد تصور عبد الله العروي لأشكال الوعي الأيديولوجي العربي، من خلال كتاب "الأيديولوجيا العبرية المعاصر ة".


  
- يعتبر عبد الله العروي من أبرز المفكرين المغاربة والعرب، وقد ساهم في مجموعة من المجالات الفكرية سواء في التاريخ أو نقد التراث أو في الدراسات الاجتماعية ... ويعتبر كتاب "الأيديولوجيا العربية المعاصرة" من أبرز أعماله الفكرية التي خلقت نقاشا في الساحة الفكرية العربية، والذي تعرض لمجموعة من الانتقادات من طرف مجموعة من المفكرين كمحمد عابد الجابري وجورج لابيكا وغيرهم عديدون ..
  -  وفي هذا المقال سنتطرق لمجموعة من أفكار هذا الكتاب، محاولين إبراز أوجه أخرى، وطرح تساؤلات من أجل خلق نقاش مع أفكار الكاتب. وهذه المساهمة المقالية لا ندعي فيها التطرق إلى كل الأفكار، بل فقط بعض الأفكار أردناها مقدمة للنقاش مع القراء في أفكار أخرى للكتاب. وتجدر الإشارة إلى أن عبد الله العروي لا يعترف بالترجمة الأولى لهذا الكتاب وينتقدها بشدة، لذلك أعاد هو بنفسه ترجمة الكتاب الذي كتب في الأصل باللغة الفرنسية إلى اللغة العربية (الأيديولوجيا العربية المعاصرة، عبد الله العروي، المركز الثقافي العربي، 272 صفحة).

  -  إن عبد الله العروي يتطرق في كتابه هذا لمجموعة من الإشكالات التي تعاني منها المجتمعات العربية، لا سواء في تحديد ذاتها أو في رؤيتها للأخر أي الغرب. بعبارة أخرى فالكتاب هو نص تحليلي للسؤال القديم-الجديد لماذا تقدم الغرب وتأخر العرب، ويطالب بممارسة النقد الذاتي لا سواء للماضي وللحاضر ونقد الغرب كذلك، أي النقد المزدوج للخروج من مأزق التخلف.

   - وترتكز المساهمة النظرية لعبد الله العروي على تقسيم الأيديولوجيا العربية المعاصر إلى ثلاث نماذج هي التي تنحصر فيها هاته الأيديولوجيا، وهي وعي الشيخ ووعي السياسي ووعي داعية التقنية. وهي أشكال من الوعي تولدت بشكل تعاقبي وليس تساكني، ففي البداية نشأ وعي الشيخ مع دخول الاستعمار ثم وعي السياسي مع الحصول على الاستقلال ثم وعي داعية التقنية  مع الدولة القومية. وفي هذا السياق يقول " ما يجب الانتباه إليه والنظر فيه هو أن المجتمع منذ عهد النهضة يواجه غربا تجاوز كل أشكال الوعي هذه" (ص 53)، فهو يقصد أن الغرب تجاوز وعي الشيخ ووعي السياسي ووعي داعية التقنية، غير أن الأمر في الواقع ليس بهذه الصورة، إذ يمكن أن نقول بأن وعي معين ومحدد هو الذي يسود في دول الغرب ولكن أن يكون تجاوز أشكال الوعي الأخرى فهذا ما لا يشهد به واقع تلك المجتمعات، بدليل وجود فئات عديدة لا تعرف تجانسا بينها بقدر ما هناك اختلاف شديد، فنرى الوعي المسيحي في الولايات المتحدة الأمريكية يزداد نشاطا، ونرى الجالية الإسلامية في أوربا تتزايد، ونرى خطاب اليمين اتجاه المهاجرين يشتد، ونلاحظ الأزمات السياسية لم تنعدم بل نرى نقدا متزايدا للديمقراطية التمثيلية، وفيما يخص التقنية فهناك نقاشات دولية حول تأثيراتها في مسار البشرية. إذا الغرب لم يتجاوز بشكل نهائي الوعي الديني والوعي السياسي والوعي التقني، بل نرى جدلا فيما بينهما.

 - فالأستاذ عبد الله العروي في تطرقه لأشكال الوعي في البلاد العربية، قسمها إلى شكل خانات جامدة، فهناك خانة الشيخ وخانة السياسي وخانة داعية التقني، وكأن كل خانة تعرف عناصرها المشكلة لها تجانسا مطلقا. ولكن حينما نريد أن نطبق هذا التجريد ونفهم أصله الذي انطلق منه نحصل على العكس، فعوض الشيخ نجد الشيوخ أو تيارات عديدة حتى في فترة الاستعمار، فتمثل أو وعي محمد عبده ليس هو وعي الأزهر أو الزيتونة أو القرويين. وحين تطرق إلى السياسي حصره في داعية الليبرالية الذي حسب فهم العروي سيسطع نوره في دولة ما بعد الاستقلال ولكنه تغاضى عن مجموعة من التمثلات السياسية الأخرى التي تولدت وإن بشكل جنيني مع نشوء البرجوازية العربية ومنها الوعي الاشتراكي والوعي القومي.

  - لقد حاول عبد الله العروي أن يبرر منهجية التقسيم إلى الشيخ والسياسي والتقني  بـ"كون الذهنية الواحدة لا تتجسد في الرجل نفسه في كل البلاد العربية (قد ينشر في هذا البلد أو ذاك، ذهنية الشيخ غير الشيوخ وذهنية الليبرالية غير رجال السياسة. فلزم فصل الذهنية عن شخص حاملها)" (ص 48)، غير أنه يعود في فقرة أخرى ليخرق هذا الضابط المنهجي من خلال الاستدلال على أشكال الوعي هاته برموز ثقافية عربية أو بالأحرى مصرية وهي محمد عبده (الشيخ)، سلامة موسى (داعية التقنية)، لطفي السيد (السياسي الليبرالي)، إذ يقول في هذا السياق "استوحينا النمذجة المذكورة من أعمال محمد عبده ولطفي السيد وسلامة موسى لأننا اعتبرنا أن هؤلاء المؤلفين يجسدونها أوضح وأظهر ما يكون التجسيد." ( ص49).

 - إن هذا الاختلال في محاولة السير على نفس المنحى المنهجي، يمكن أن نعيده إلى إنبناء التفسير والتأصيل على أساس النقاش الأيديولوجي الذي لا ينكر عبد الله العروي ممارسته. ففي النقاش الأيديولوجي ليس بمشكل أن نتغاضى عن التناقضات المنهجية والاستدلالية من أجل الدفاع عن مضمون الفكرة أي عن ما نعتبره هو الحقيقة.
-  إن عبد الله العروي في نقاشه لنشوء أشكال الوعي، والتي يعتبرها ذات تولد تعاقبي وليس تساكني، ينطلق وإن بشكل غير مباشر أي وإن لم يقلها في جملة صريحة، من تجارب دول معينة خصوصا مصر ليعممها على كل البلدان العربية، فمثلا يعتبر أن في فترة الاستعمار أول وعي مواجه تولد فيه هو وعي الشيخ، ولكن حين نأتي إلى تجربة المغرب نجد الوعي بالمجال وبالأرض والنزعة الاستقلالية التي تجلت في المقاومة المسلحة لعبد الكريم الخطابي تسبق دخول الحركة السلفية الإصلاحية للحركة الوطنية ومساهمتها في المطالبة بالاستقلال انطلاقا من وعي ديني وهو ما يجسده عبد الله العروي في علال الفاسي (الشيخ الذي حاول تقليد الشيخ محمد عبده)، ولكن إذا طبقنا التفسير التعاقبي لعبد الله العروي في دولة المغرب نجد حركة المقاومة المسلحة التي تتجلى في وعي عبد الكريم الخطابي سبقت وعي الشيخ لدى علال الفاسي. بالإضافة إلى أن معالجة عبد الله العروي لوعي الشيخ كوعي يتلخص في فكرة المواجهة ما بين الإسلام والنصرانية لم يرتبط بدخول الاستعمار، فهو يقول في هذا السياق "يبدو واضحا أن وعي الشيخ مرتبط بالمجتمع الخاضع للاستعمار المباشر" (ص51)، أين الوضوح في هذه الفكرة من غير الوضوح اللغوي فليس هناك وضوح أخر، بقدر ما أنه من المعلوم أن وعي الشيخ بالفهم الذي أعطاه عبد الله العروي باعتباره وعيا يرتكز على فكرة المواجهة ما بين دار الإسلام ودار النصرانية هو ينتمي إلى فترات تاريخية سابقة على الاستعمار، فما محل الحروب الصليبية وحروب الاسترداد هنا ؟ كيف كان وعي المجتمعات الإسلامية في تلك الفترة وهي تواجه الهجوم المسيحي ؟؟

  - إذا الفكرة غير واضحة بتاتا، وحتى لو افترضنا جدلا أن وعي الشيخ ارتبط بالاستعمار المباشر، فليس هناك وعي وحيد منفرد متجانس، بل الوجود هو لفئة الشيوخ تتميز بوعي متعدد ومتناقض، فهناك من الشيوخ من برر نظرا لارتباطه بالسلطة الحاكمة، وهناك من اختار الحياد والصمت، وهناك من قاوم وتمرد سواء بالقلم أو بالسلاح. إذا الأمور ليست بالجمودية التي يعطيها عبد الله العروي، فهو يدعي بأنه يطبق المنهج الاجتماعي-التاريخي، غير أننا نراه يسقط أحيانا في المنهج البنيوي والمنهج الوضعي الذي ينتقده بشدة هو نفسه. وهذا عائد كما قلنا إلى هيمنة النزعة الأيديولوجية عند عبد الله التي لا تعطي أهمية كبيرة للشكل والتناسق بقدر ما يهمها الغاية والهدف. ويبرر في سياق أخر من الكتاب هذا التقسيم إلى ضرورة الفصل ما بين التحقيب السياسي والتحقيب الثقافي "التحقيب المقترح ثقافي، فلا يطابق بالضرورة مرحلة التطور السياسي" (ص50)، ونجده في المقدمة المنهجية يقول "... ألصق بكل مفهوم معنى طبقيا وأعني به أثر البنية الاجتماعية التي نشأ فيها ..." (ص28)، نلاحظ في الفقرتين تشويش في النسق الفكري لعبد الله العروي وهذا يعود في أساسه إلى أن التحقيب المقترح هو في مضمونه تحقيب أيديولوجي يطابق فهما سياسيا لدى الكاتب وليس تحقيبا ثقافيا.

  - وتجدر الإشارة إلى أن الـتأصيل الذي أعطاه لوعي الشيخ باعتباره وعيا ينحصر في المواجهة ما بين الإسلام والنصرانية يتطلب إعادة النظر، خصوصا حينما نمعن النظر في الساحة الثقافية أو بعبارة أخرى في ساحة الثقافة الدينية، نجد نقاشات أخرى ووعي جديد يتجلى أساسا في الاصطدام ما بين رؤى إسلامية ورؤى علمانية.
  - وفي سياق مناقشة عبد الله العروي لأشكال الوعي، ينساق إلى إطلاق تعميمات تخرج عن خانة الوعي الذي يناقشه، فمثلا في مناقشته للقاء محمد عبده (الشيخ) بهربرت سبنسر يقول " إذ يتعين القول أن المجابهة بين الشرق والغرب تجري أول ما تجري على مستوى الوعي الديني لسبب قاهر وهو أن الشرق لا يدرك نفسه إدراكا تاما مقنعا إلا كإيمان وعقيدة" (ص56)، فنلاحظ في هذا القول تعميما مفاده تسييد لفكرة الروح للشرق والعقل للغرب، وبالتالي يسقط هو نفسه في بعض المقولات الإستشراقية التي ينتقدها في الكتاب.

-  ففي الأخير، نحن لم نرد أن نخطئ فكرة ما أو نعتبرها صائبة، بقدر ما أردنا الإشارة إلى ما خفي من القول سواء أكان الكاتب مدركا له أو غير مدرك، فاللغة تكون حجابا وقناعا أحيانا، فالنقد دوما يتطلب الحفر في عمق الأشياء واقتلاع الطبقات التي تشكل أقنعة تخبئ النواة.

الأحد، 4 مايو 2014

دور المدرسة الألمانية في تطور الفكر الجغرافي. (الجزء الثاني).

3- حركة التجديد:

  ظلت الجغرافيا الألمانية، إلى ما قبل الحرب العالمية الأولى، ورغم ما شهدته من نقاش، تعيش حالة اضطراب بسبب الغموض الذي بقي يكتنف موضوعها. ويذكر جيتسبك أن مفهوم "اللاندسكيب" الذي أخصب الجغرافيا الألمانية وبعثها من مرقدها، مفهوم ولد في أحضان المدرسة الابتدائية أي ما يسمى بالجغرافيا السردية أو الموسوعية. وفي بداية القرن العشرين تخلصت الجغرافيا الألمانية من تأثيرات راتزل وقامت بتطوير موضوع البيئة وإفراغه في قالب الدراسة الإقليمية وفق ما كان يراه هتنر ورختوفن ومن سبقهما من كبار حغرافيي القرن التاسع عشر، وإن كانت هذه الجغرافيا الإقليمية ستركز بالأساس على موضوع استأثر بكل الاهتمامات: ألا وهو موضوع "المشهد".

3-1 اللاندشيفت:

يعتبر مفهموم اللاندشيفت جوهر المدرسة الألمانية، (ومعناه في المدرسة الجغرافية العربية الحديثة "المشهد") إذ كان هناك اعتقاد سائد بأن مفهوم "اللاندشيفت" ثمرة منحتها المدرسة إلى الجامعة، فهناك أيضا من يرى غير ذلك كشلت (1980)، الذي يرجع هذا المفهوم إلى كتاب "الجغرافيا العسكرية" الذي ألفه هوميا في بداية القرن التاسع عشر، سنة 1850. ويعتبر أوطوشلوتر "أول من جعل من الجغرافيا علم المشاهد"، والذي لم يكن يرمي إلى أبعد من وصف اختلافات السطح نتيجة تفاعل العوامل الطبيعية، وإن كان لا يمانع في بحث الجوانب المستورة من تلك الظواهر. وهذا ما أقدم عليه بالفعل غيره. ولكي تتأسس المدرسة الألمانية كان لابد من تجاوز هذه المواقف المختلفة ولم شتاتها. وهذا ما حدث ابتداء من سنة 1910.

3-2- دلالات مفهوم "المشهد":

  في كتابه "طبيعة الجغرافيا" تعرض هرتشون لمفهوم "اللاندسكيب" عند الألمان، فبين ما فيه من غموض وشبهة، ثم جاء هارد ليؤكد نفس الملاحظة. وكلاهما يريان لنفس اللفظة دلالة مزدوجة تعني "المشهد" بمعنى "الإقليم" ككيان يندرج في تصنيف مكاني معين، وأيضا " الوحدة المجالية". وهكذا كان محرك الجغرافيا الألمانية في بداية القرن العشرين تياران:

- الأول يحلل التفاعلات ويطمح إلى تقديم تفسير علمي للمكان، وهو اتجاه يتصل بريتر عبر كوكبة من الجغرافيين منهم كرشوف و وول وجتسبك.

-  أما الثاني، أي التيار "الجمالي" أو "الانطباعي"، فهو اتجاه لاحق يولي الاهتمام أولا وقبل كل شيء إلى الواقع المحسوس وما ينطوي عليه من تنوع كما عبر عن ذلك لفيف من الباحثين (راتزل، هوميا، شون، فيمر...).

  هذا التقابل بين جغرافيا تعميمية و معيارية تهتم بانتظام الظواهر وتصنيفها بغية اتخراج قوانينها ، وجغرافيا إقليمية تعطي الأسبقية للتحليل الأحادي ودراسة الوحدة المنفردة، مازال يغذي الجدل حتى يومنا هذا، داخل المدرسة الألمانية وخارجها.

  غير أن البحث الجغرافي الذي جعل من المشهد موضوعا له قلما بلغ أهدافه وحقق طموحاته بسبب فرطه في التدقيق والتحري في الجزيئات، إذ غالبا ما يركز الباحث اهتمامه على رقعة محدودة المساحة متجانسة المظهر، الأمر الذي يحد من الرؤية ويضيق أفاق التأمل الواسع والتفكر العميق.

4- المدرسة في الميزان:

  إذا كانت المدرستان الألمانية والفرنسية تسعيان كلتاهما إلى نفس الهدف، أي إلى وضع تقسيم دقيق المعالم للعالم أو المجال، فإن الأولى تعتمد في ذلك على مفهوم المشهد، ينما تركز الثانية على دراسة العلاقات بين الإنسان والبيئة. وهذان الموضوعان البارزان اللذان شغلا البحث الجغرافي خلال القرن التاسع عشر. ومع ذلك لا يجوز حصر المدرسة الألمانية في القالب الإقليمي الضيق وتفسيرها فقط بالمبادئ التي أرساها ألفرد هتنر. فمدرسة المشهد لا تتعارض مع الرؤية الإقليمية الصرفة، بل تكملها في كثير من الأحيان، وربما هذا ما جعلها أكثر تماسكا وجنبها لمدة طويلة التعرض للنقد والتجريح.

  غير أن النموذج الذي فرضته المدرسة المشهدية والذي قيدت به البحث الجغرافي جعل الجغرافيا الألمانية تغفل أو تتغافل عن الجوانب الاجتماعية، وإن اهتم بعض كتباها بعد الحرب- مثل هانش بيك بجامعة فيينا ولفجنج هارتك بميونخ- بموضوع البنيات الاجتماعية الذي قاد إلى دراسة الأنظمة الاقتصادية والاجتماعية في علاقتها مع البورجوازية من جهة، وإلى تحليل أشكال استعمال الأرض عند الطبقات المتوسطة ودراسة مخلفات المجتمع الريفي التقليدي من جهة أخرى، لكن دون محاولة التخلص من المسلمتين الأساسيتين اللتين تشكلان عماد الجغرافيا الألمانية: ترجيح التأويل- تأويل المشهد- على التفسير والتعليل، والعمل على إبراز روح الجماعة بعد استبدال الطبقة الإجتماعية بالسلالة، لتبرير مفهوم أحقية التوسع في المجال الحيوي. وقد يكون هذا سببا رئيسيا في عدم قدرة الجغرافيا الألمانية على تجاوز مرحلة التصنيف وتخلي الباحثين عن مشروع مؤلف مشترك حول الجغرافيا الإجتماعية.

  إن المدرسة الجغرافية الألمانية وإن كانت بدورها تساير التطور وتأخد بعين الاعتبار التمايز المكاني، فقد عكست الاية، إذ قدمت السلالة (العرق) على التراب (المجال)، وهنا يتبين تأثر المدرسة الألمانية بالنزعة العنصرية القومية (النازية) وفي هذا السياق يأتي اعتناؤها بالمشهد الذي أصبح جوهرها وموضوع بحثها المفضل.

خاتمة:

  لا جدال في أن هذا الصرح الذي شيدته المدرسة الجغرافية الألمانية شامخ ومعلمة بارزة على درب الفكر الجغرافي. لكنه مع ذلك إنجاز تعرض لمجموعة من الهزات والانتقادات سواء داخليا أو خارجيا من المدارس الوطنية الأخرى. فأما العوامل الداخلية فهي تتلخص في حركة التنظير النشطة التي تنزع إلى توحيد المادة خصوصا بعد الحرب العالمية الثانية، أما العوامل الخارجية فتتمثل في تطور المجتمعات وبروز مدارس أخرى عديدة، وهو ما سيجعل من المفاهيم والأدوات التي كانت متداولة في المدرسة الألمانية متجاوزة.