الأربعاء، 19 نوفمبر 2014

اللغة العربية والتعدد اللغوي في مجتمع العصر الوسيط الإسلامي.


  خلال دخول الجيوش الإسلامية لمناطق جغرافية تستوطنها شعوب مغايرة عن العرب، وجدتها تمتاز بلغات شفهية ومكتوبة تجد تجلياتها في ثقافات وطقوس وفنون متعددة، مما نتج عنه تأثير وتأثر أو بمعنى أخر حصول عملية التثاقف. فمنذ بداية ما يعرف بالفتح الإسلامي منذ القرن الهجري الأول ستغزو اللغة العربية وتنتشر في مجتمعات أخرى مختلفة ثقافيا واجتماعيا وحتى اقتصاديا. وقد انتشرت اللغة العربية بفعل مجموعة من العوامل منها، اتخاذ اللغة العربية من طرف "الخلفاء بعد مرحلة تجربة طويلة، لغة للإدارة والعملة، بينما ساهم في تعليمها والتدريس بها عرب وموال تربوا في بيوت عربية منذ صدر الإسلام. وتعلم كثير من غير العرب لغتهم إما عن طريق التعامل اليومي في الأسواق والأحياء أو الجيوش. وقامت المساجد والكتاتيب ثم حلقات الصوفية والزوايا بدور كبير في نشر العربية كلغة للدين والمعارف الإسلامية"1.

  إن هذا التأثير الذي مارسته اللغة العربية بفعل سيطرة حاملها المادي أي الدولة العربية- الإسلامية يتجلى ويبرز في إدخال وتعريب مجموعة من المصطلحات والأسماء عند المجتمعات التي تم غزوها.
  وستعرف اللغة العربية في هذه المرحلة تمايزا ما بين الشرق والغرب، فتجدها في الشرق قد انتشر وهيمن عليها "اللحن والمؤثرات الأعجمية العديدة" نظرا لتعدد اللغات والثقافات العريقة في تلك المنطقة مثل الفارسية، في حين أنها في الأندلس تأثرت بنزوح بني هلال مما أكسب وأغنى اللغة هناك بمجموعة من المصطلحات العربية العريقة. وما يشهد على تأثير اللغة العربية في الشعوب غير العربية الإنتاجات الفكرية واللغوية التي أبدعها غير العرب كسيبويه وأبي قاسم الزجاحي، إذا لمثقفي وعلماء ذاك العصر دور كبير في نشر وإبراز الثقافة العربية.
  ذاك التمايز ما بين المشرق والمغرب يدل على أن اللغة العربية في مستوى التداول اليومي لم تعد موحدة كنسق لغوي على امتداد مجال هيمنة الثقافة العربية-الإسلامية، فعملية تحويل اللغة العربية إلى لغة الشارع فرضت عليها حصول ما يعرف "بالتدريج" (الدارجة، العامية ...) أي أنها أصبحت عبارة عن لهجات تتماشى مع الخصائص المحلية لكل مجتمع على حدا، لذلك حذر الجاحظ في كتابه "البيان والتبيين" من رواية القصص والنوادر المخصصة للعوام باللغة العربية فذلك يفسد المتعة والتمتع بها2، فقول الجاحظ هذا يدل على أن السائد عند الأغلبية "العامة" ليست اللغة العربية الفصحى وإنما لغة عربية محرفة.
  على الرغم من هذا التوسع الكبير للدولة العربية- الإسلامية وما صاحبها من انتشار للغة العربية، وكذا بفعل امتداد التجارة العربية لمجموعة من المناطق الإفريقية خصوصا في سواحل شرق إفريقيا، الشيء الذي أفضى إلى انصهار مجموعة من المصطلحات مع اللهجات المحلية وأصبحت تسمى باللهجة السواحلية3 خصوصا في العهد الفاطمي. قلنا بأنه على الرغم من هذا التوسع الكبير، فقد حافظت مجموعة من الشعوب على استقلاليتها وتميزها اللغوي مثل شعوب الفرس، التي يشير ابن النديم إلى كونهم كانوا يمتلكون خمس لغات،" منها االفهلوية بعدة مناطق، والفارسية بمنطقة فارس (الجنوبي لإيران)، والسريانية... وكانت الفارسية لغة رجال الدين والمثقفين بينما السريانية أيضا لغة نصارى العرب في كتاباتهم وطقوسهم. ويذكر الأصطخري أن الفهلوية كانت لغة المجوس في مكتباتهم، وأنها تحتاج من أهل فارس إلى ترجمة حتى تعرف".
  والأمر لم ينحصر في الحفاظ على التميز والاستقلالية بل كان هناك تأثير في الثقافة العربية من خلال الفنون والمعمار والتنظيم الإداري والفلسفات... ويذكر مجموعة من الجغرافيين حصول احتكاك ما بين الفارسية والعربية في عدة مناطق منها خوزستان5 وبأذربيجان وأرمينية ...6
   إن هذا التداخل والحضور المتعدد للممارسة اللغوية، شكل مشكل الازدواجية لا سواء في الحقل الثقافي أو خلال التعامل اليومي في تلك الفترة التاريخية، وفي هذا يقول الجاحظ متحدثا عن أحد المدرسين "كانت فصاحته بالفارسية في وزن فصاحته بالعربية وكان يجلس في مجلسه المشهور به، فتقعد العرب عن يمينه، والفرس عن يساره، فيقرأ الآية من كتاب الله، ويفسرها للعرب بالعربية، ثم يحول وجهه إلى الفرس فيفسرها لهم بالفارسية، فلا يدري بأي لسان هو أبين "7.
  فالمجتمعات التي وصل الإسلام إليها والتي تعتبر عريقة في الحضارة قد حافظت إلى حدود معينة على استقلالها اللغوي مثل مجتمعات الترك والفرس وكذلك بعض المجتمعات الأمازيغية في الغرب الإسلامي، فالتأثير اللغوي كان متبادلا بفعل احتكاك أجناس متعددة ومختلفة، وكذا بفعل الحاجة التجارية والاقتصادية، وللأغراض العلمية كما في حالة الرحلات خصوصا الرحالة الذين يطول سفرهم ومقامهم، فنجد ابن بطوطة قد تعلم لسان الترك ولسان الفرس8. كما ساهمت عملية الترجمة في عملية التأثير اللغوي خصوصا ترجمة المؤلفات الهندية في عهد الرشيد العباسي الذي أرسل البرامكة بعثة طلابية لتعلم ومعرفة العلوم الهندية. وقد تأثرت اللغة العربية بلغة الترك من خلال دخول مجموعة من المصطلحات العسكرية والإدارية والمهنية، والعكس صحيح. كما ظلت الأمازيغية عبر قرون مديدة رغم تأثرها بالعديد من مصطلحات اللغة العربية محافظة على تميزها اللغوي خاصة في عملية التواصل الشفهي.


  من خلال ما سبق يمكن أن نستنتج بعض الأفكار الأساسية:
1- هناك تمايز ما بين المكتوب الذي غلبت عليه اللغة العربية الفصحى إلا في حالات نادرة كما في المناطق الفارسية، وما بين الشفهي الذي عرف تعددا وتنوعا خصوصا بعد ظهور اللهجات في اللغة العربية نفسها؛
2- التأثير المتبادل للثقافات المتجاورة والتي وصل إليها المد العربي- الإسلامي، الشيء الذي انعكس في مجال اللغة؛
3- المفارقة ما بين لغة الثقافة والدين ولغة التفاعل اليومي، فالأولى تستعمل فيها اللغة العربية الفصحى والثانية تغلب فيها اللغات المختلفة واللهجات؛
4- العالم العربي- الإسلامي رغم هيمنة اللغة العربية على مفاصيل الدولة والإدارة وارتباطها بالحقل الديني فقط ظل هناك هامشا كبيرا للغات المختلفة للتداول وللمجتمعات المغايرة أن تعبر بلهجاتها ولغاتها، خصوصا في الأمور الاقتصادية التجارية.
ولكن يظل هناك سؤال محوري، هل هذا التعدد فرضته الضرورة الاجتماعية- الاقتصادية أم نتيجة روح التسامح وتقبل الأخر في الثقافة العربية- الإسلامية ؟









1- حركات إبراهيم، المجتمع الإسلامي والسلطة في العصر الوسيط، ص 40.
2-الجاحظ ، البيان والتبيين، 1، 172.
3- باذل دافدنصن، إفريقيا، 282.
4- حركات إبراهيم، نفس المرجع السابق، ص 43.
5- الحميرين الروض المعطار. مادة توزستان.
6- الاصطخري، ص 112، 121. ياقوت، مادة كردز، خوارزم.
7- الجاحظ، البيان والتبيين، 1، 278.
8- ابن بطوطة، رحلة1، 199.