الأربعاء، 25 يونيو 2014

من ثقافة المعرفة إلى ثقافة السلطة.


  حينما تقود السياسة الثقافة، حينها تصبح السياسة ذات مدى آني، تصبح السياسة  سياسة بحث عن التنازلات لصالح مكاسب صغيرة وضيقة. إن السائد عندنا منذ السبعينات أي منذ تأجج الصراع الاجتماعي والسياسي سيادة ثقافة السياسة عوض سياسة الثقافة.

  إن للفعل الثقافي مساره الخاص وبنيته المستقلة نسبيا، غير أنه عوض أن يكون هو محدد أسس السياسة وتوجهاتها من خلال النقد والسؤال وتجديد الإشكاليات، أصبح العكس هو الصحيح أي أن الفعل الثقافي أصبح منزويا في ركن ضيق محاصرا ينتظر إذن السياسي لكي يستغله كآلية من آليات الصراع، كتقنية ضغط على الآخر المختلف. فالثقافة في هذا المستوى أصبحت ساحة للصراع حول المصالح السياسية وما يصاحبها من مصالح مادية اقتصادية، سواء أكانت فردية أو جماعية.  بمعنى أخر ما حصل وما زال هو "توظيف الثقافي لخدمة السياسي".
     إن غياب الفعل الثقافي المستقل وليس المستقيل، فالمثقف المنعزل نهائيا وبشكل مطلق عن القضايا المجتمعية وعن الديناميات الحاصلة فيه، هو مثقف مستقيل. فهناك فرق ما بين المستقل والمستقيل، فالمستقل هو المثقف الذي يترك هامشا أو فراغا لكي يتمكن من توسيع الرؤية وليرى المشهد من كل الزوايا إذا أمكن ذلك، فرغم انتمائه لحزب أو مؤسسة فلابد من ترك مساحة ما بين الذات والفضاء الذي تشتغل فيه، لكي تكون هناك إمكانية ممارسة النقد والتساؤل، فإذا المعنى هنا نسبي أي أن الاستقلالية نسبية وليست مطلقة. فغياب هذا الفعل الثقافي المستقل أنتج لنا ممارسات ومنظومات سياسية مغلقة ومنغلقة على ذاتها، مبنية على مجموعة من المقولات اليقينية، مقفلة أبوابها بشكل محكم لا تسمح بمرور سؤال نقدي كيفما كان نوعه.
  ثقافة السياسة أي الثقافة التابعة للممارسة السياسية وللصراع السياسي الضيق، دائما تواجه سياسة الثقافة أي السياسة المؤطرة ثقافيا والتي تساهم الثقافة  فيها بشكل واعي ونقدي لوضع منظور إستراتيجي متوازن لا يغلب هذا على هذا، تواجهها بشكل مستمر في محاولة دائمة لتوجيهها خدمة لتوجهات الماسكين والمتحكمين بثقافة السياسة.
  إن هيمنة التوجه السياسوي الذي يحتكر كل شيء حتى الثقافة من أجل الوصول بسرعة إلى الحصول على جزء من السلطة، يصطدم مع  ثقافة المعرفة باعتبارها قراءة وتحليلا ونقدا وبالتالي رؤية ذات أساس قويم، هاته المعرفة تتناقض مع الطابع الاحتكاري للسياسي الذي يريد سيادة فهم واحد ومقولات عامة لا يمكن مساءلتها... بعبارة أخرى غياب الفعل الثقافي المستقل يولد لنا جهلا سياسيا وبالتالي سوءا وخللا في التدبير والتسيير. وهذا ما يشهد به الواقع من غياب الذكاء السياسي الذي يخول القدرة على التخطيط والتدبير.
  إن هذا التناقص الحاصل، والمنطق السائد الذي يوجه السياسة والثقافة من خلال فهم معين أو بالأحرى من خلال أيديولوجيا مهيمنة، تدل على غياب مجتمع المعرفة.
  إن مجتمع المعرفة هو أحد ضروريات تحقيق وإنجاح برامج ومشاريع ومخططات التنمية البشرية أو التنمية المستدامة. فلا يمكن للتنمية بشكل عام أن تنجح في أرض غير متشبعة بالقيم والمعارف أي بالعلم والتعليم. فالإنسان هو هدف هذه المشاريع والبرامج وهو نفسه الواضع لها وصانعها، فكيف ستكون منطلقاتها وتطبيقاتها جيدة وملائمة في حالة إذا كان صناع القرار وجزء هام من المجتمع لا علاقة له بالعلم والمعرفة. بمعنى أخر في مجتمع الجهل أو المجتمع الجاهل عوض المجتمع العارف لا يمكن الحديث عن نجاح مشاريع التنمية كيفما كان نوعها، فغياب الثقافي وهيمنة السلطوي-السياسي يولد لنا فراغا وأزمات مجتمعية مستمرة.
   فالتنمية البشرية تتطلب أفرادا قادرين على الاستيعاب وعلى الإبداع والابتكار، فنحن أمام مفهوم التنمية أي مفهوم يحيل إلى الارتقاء والتطور والتحسن، وهذا لا يمكن أن يكون إلا بالقدرة على الصناعة والتجديد والابتكار... وأساس كل هذا هو سيادة العلم والتعليم الجيد، بمعنى تحقيق مجتمع المعرفة.
  فهذا الوضع المتأزم لا يتأسس على فراغ، بل هناك أطراف مجتمعية تسيده، فالكل يتحرك على رقعة أو شبكة من المصالح تختلف من فرد إلى أخر ومن فئة إلى أخرى، وكل نقطة تلتقي فيها مجموعة من المصالح ، الشيء الذي يحيلنا إلى صيرورة التحالفات والتناقضات، والمصلحة هنا نعني بها الاستفادة من شيء لصالح الذات الفردية أو لصالح الذات الجماعية بطريقة لا تخدم تقدم المجتمع. إذا هنا إشكالية أخرى وهي وجود أطراف وفئات تشكل عائقا أمام انتشار الفكر النقدي والمعرفة والعلم، أي انتشار ثقافة المعرفة.
  غير أن الوضع يزداد تعقيدا حينما نوجه أنظارنا إلى ما يسمى بالفاعلين في المجتمع المدني أو المثقفين، إذ نجد العديد منهم وقد أصبحوا آلة تستخدمها الفئات المحتكرة للسلطة، فالمثقف هنا عوض أن يساهم في السلطة انطلاقا من رؤية وقناعات ... نرى الحاصل هو العكس، نراه يجري نحو السلطة بشكل ينفي فيه ذاتيته، يساهم من خلال نفي عقله وفكره وإعدام قناعاته. لقد أصبح المثقف عبارة عن معبر أو قنطرة يمررون من خلالها القرارات سواء في الشأن الثقافي أو في غيره.
    لقد أصبح لدينا مثقف استهلاكي، مثقف يستهلك كل ما يعطى له من أوامر. فمن خلال ارتباطه بالسلطة  يرتبط بواقع حال المجتمع أي بمشاكله وتناقضاته وأزماته ... فهو يتعلق برؤية النخبة الحاكمة فيصبح أداة تبرير لسياساتها. فعوض القيام بمهمته التي تفرضها عليه ذاته المثقفة وهي التفكيك والمساءلة والنقد وبالتالي إنتاج المعرفة وإبداعها، نجده يكرس قيم الاستهلاك والتكرار والاجترار.


إسماعيل أعشير.
 Ismail.aachir@gmail.com