الثلاثاء، 31 ديسمبر 2013

حوار في الفكر المنغلق.

  إن أي خطاب أيديولوجي شفهي أو كتابي يظهر أشياء ويخفي أشياء، وبالتالي فنقد هذا الخطاب لا يجب أن يقف في حدود الظاهر من النص (نص الخطاب) بل يجب أن يحفر ويفكك أو يتجاوزه إلى ما ورار الخطاب/ ميتافيزيقا النص، أي ما أراد الكاتب أو القائل إخفائه بقصد أو بلا قصد. وهنا أستحضر خطابات التنظيمات السياسية، سواء الطلابية أو الجماهيرية، التي يمكن أن نسقط عليها آليات نقد النص باعتبار هذه التنظيمات أجهزة لصنع خطابات ذات لغة مراوغة مخاتلة فهي في مستوى معين بنية نصية مستقلة لها ظاهر مباشر وباطن خفي. إذا من أجل ضبطها وحفر سطوح مظاهرها لاكتشاف الخلفية الأس، يجب امتلاك مطرقة النقد والتفكيك لاكتشاف المرامي الخفية والمختبئة ما بين المباشر من اللغة، إذ نجد مثلا تنظيما ما يرتكز في خطابه على نقد سلطة سائدة ولكن حين نتجاوز القراءة السطحية التبعية العاطفية نجد أنه يؤسس لسلطته هو، لا تبتعد في جوهرها عن السلطة الآنية، وليس كما يدعي هو في الخطاب المباشر.

   ولهذا فإن النقاش انطلاقا من الايديولوجيا –بالفهم السلبي لها- يجعل صاحبه ذو رؤية أحادية تقصي الاخر من إمكانية امتلاكه جزء من الصواب، إنها نظرة مركزية تجعل الكل يدور في مدارها وإن أراد أحد التحرك أو الاهتزاز تثار حوله كل الاتهامات. والايدولوجيا التي ترتكز على مبادئ شاملة وقارة تتحول مع الزمن إلى عقيدة جامدة تستخدم اليات التكفير والتخوين كجزء من ممارسة تتوهم فيها العلمية بالنسبة لبعض الماركسيين أو الايمانية بالنسبة للمتأسلمين.إنه خطاب مليء بالكراهية والحقد وعدم الثقة في الاخر لمجرد أنه مختلف، والاختلاف عدو الايديولوجيا، إن هذه الاخيرة محكومة بالخلاف وبسياسة التموقع الدائم ضد الاخر. نحن لا نقول بعدم وجود تمايزات في البنية الاجتماعية بكل مستوياتها الاقتصادية والسياسية والفكرية، وإنما نقول بأن النقاش الفكري تحكمه اليات وأسس إن غابت سيغيب معها جدوى الفكر من أصله، فبدون حوار ونقاش علمي جاد يحترم الاخر المختلف، لن يكون هناك إنتاج معرفي وإنما سيكون إنتاج سلطوي بمعنى اخر سيكون محكوما باستحضار منطق السيطرة والتحكم والتسلط. لا ننكر الصراع في الفكر لأنه جزء من الصراع العام الذي يخوضه المجتمع، غير أنه يجب علينا أن نميز ونفرق وإلا سقطنا في منطق التماثل والتشابه فيعود الجميع متشابها الفكر كالسياسة والسياسة كالاقتصاد ...وحينها لا جدوى من الفكر والعلم والتفكير. والصراع في الفكر تحكمه أدبيات وأخلاقيات منها تقبل كلام الاخر واحترامه وترك الفسحة له للتعبير بدون تحكم أو تهديد، ففي الفكر يحضر النسبي والمتعدد، والوجود فيه للحجة والبرهان لا للاتهامات والتهديدات والعنف الرمزي الذي يولد العنف المادي.
  فشعار أصحاب الفكر المنغلق هو إننا نتكلم بما نجهل لا بما نعلم، هذا شعار البعض في النقاش خصوصا أصحاب القوالب الفكرية والإجابات الجاهزة.  يريدون تغيير العالم وينسون بأنهم ليسوا وحدهم في هذا العالم بل هناك الملايين من البشر المختلفين. وما يحصل لأغلبيتنا هو أننا نجد قوالب فكرية جاهزة ونحشي فيها رؤوسنا، والعقل نتركه في الهامش إن لم نعدمه.
  وأصحاب الفكر المنغلق مبرمجون ليرو فقط سطوح الاشياء. أما العمق فيعني لهم المعاناة، فمن يستطيع أن يغوص في أعماق ظلمة المحيط، فكذلك ظلمة الفكر.
  وفي هذا السياق، تجد نفسك في نقاش مع بعض الماركسيين في دوامة من الانتقادات التي تنبني على مجموعة من التهم منها بأنك من تيار العقلانيين والتنويريين وكأن العقل والتنوير محصور في الفئة البرجوازية من المجتمع متناسين أو جاهلين بأن ماركسية ماركس هي نفسها قراءة ومحطة في سيرورة الحداثة وعقلنة المجتمع...هذه الظاهرة وهي سلبية أصبحت منتشرة  في العديد من النقاشات على المواقع والشبكات الاجتماعية الافتراضية، وللإشارة فإن العقلية الاتهامية لا تنحصر عند بعض الماركسيين وفقط بل هي ميزة كل فكر منغلق متشدد أي كل عقل قالبي يقولب كل شيء حسب منظوره للحقيقة.
  وحين تناقش البعض منهم يواجهك بأن نظريته علمية وليست عقيدة جامدة، فهي تساير تغاير الواقع. ولكن حين تنتقده في شيئ من أيديولوجيته وإن كان ثانويا يقوم ثائرا متهما إياك بالتحريفي والعديد من الاتهامات الاخرى. وهنا يجب أن نشير إشارة حفيفة لطيفة ألا وهي، إذا كانت الماركسية نظرية تحتمل الصواب كما تحتمل الخطأ فإنه لا مجال للحديث عن التحريف والتزوير لأن النظرية أصلا قابلة للنقد والنقض لذلك فهي نظرية، أما إذا كانت الماركسية عقيدة فحينها يمكن الحديث عن التحريف والتزوير ولكن لا يحق أن نسميها نظرية علمية بل عقيدة إيمانية أو دين أرضي جديد.

  والاتهام بالتحريف هو من بقايا التفكير الكهنوتي القرسطوي، من بقايا محاكم التفتيش واحكام الردة، مفهوم التحريف يخفي تلك الرغبة في التسلط على الاخر تلك النزعة الديكتاتورية في حصر الحقيقة، ثم يقول لك الماركسية ليست وحيا بل هي نظرية علمية، وما العلم عندكم إذا كان الاختلاف يعني التحريف والكل يعلم بأن الامور في العلم نسبية إذا الاختلاف ضرورة حتى في الاصول، فما سمعنا باتهام التحريف في الفزياء أو الكمياء أو الرياضيات...و إن كنتم أتيت بعلم جديد فذاك شأن اخر. ويقول لك نحن نتبنى الديمقراطية الاشتراكية وليس الديمقراطية الليبرالية، وحين تختلف يكفرك ويجعلك من المرتدين عن الوحي الماركسي، هذا في غياب امتلاك السلطة أما إذا امتلكها فسلام على الديمقراطية وسلام علي.


  وتجدر الإشارة بأنه لا يمكن أن نفصل وجود الأيديولوجيات المنغلقة غير القابلة لقبول أرضية التعدد والاختلاف، عن الارضية الواقعية أو الشروط الموضوعية لنشأتها، فهي ليست إلا نتاج لشروط اجتماعية تحتوي على تطرف في الازمة أو تطرف في استلاب الذات الفردية، فمن الطبيعي إذا في ظل واقع كهذا ،وهو واقع من البعيد أن يتغير جوهره ومضمونه؛ أن تظهر لنا الاجابات المتطرفة والتي ستظل دائما موجودة وإن تبدلت أشكالها مسايرة عدم تغير جوهر التاريخ الاجتماعي للبشرية.
  إذا منطق الفكر ليس هو منطق الايديولوجيا وإن استحضرت الفكر فهي تغيب التفكير، فـ" المنطق الذي يوجه الخطاب الأيديولوجي له طبيعة مختلفة،إنه سحري. فالأيديولوجية حين تبت في كل شيء تعطي لأنصارها الشعور بالسيطرة على العالم من خلال الفكر. ويعد هذا الامر تمهيدا سعيدا لسيطرة من نوع اخر. إن الطابع الموسوعي المفترض للايديولوجية هو الذي يشكل، في نظر التفكير العقلاني، سبب ضعفها الذي لا يمكن الشفاء منه. إلا أنه يصنع قوتها في أنظار الافراد القليلي الاعتياد على استعمال الأفكار." 1


1- "علم السياسة"، جان ماري دانكان، ص 187،188.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق